«لَعَلَّ الَّذي أبطأ عَنّي هوَ خَيرٌ لي لِعِلمِكَ بِعاقِبَةِ الأمور»... أخيراً وبعد مخاض طويل ومعاناة كبيرة استمرّت أكثر من 13 سنة استطاع السوريون إسقاط نظام «البعث» في مشهد يصعب على أحد تخيله.
بالعودة إلى بدايات الحراك السوري الذي بدأ بمطالبات وإصلاحات سياسية مستحقة لم يستجب لها النظام للتحول بعدها إلى ثورة دموية اختطفتها الفصائل التكفيرية المتطرفة التي رفعت شعار «بالذبح جيناكم» ساعدت في بقاء النظام كل هذه الفترة رغم إجرامه.
اليوم وبعد معاناة طويلة استوعب الشعب السوري خطورة تلك الشعارات على وحدته ولحمته واستقراره، لذلك لم يكن مستغربا سرعة انهيار النظام ليحل محلها شعار سورية لكل السوريين أكثرية وأقلية بمفهومها الواسع العرقي والمذهبي، ولعل الدعاء الذي بدأت به المقال يلخص مضمون هذا التأخير وسببه. نتائج الإطاحة بالأنظمة الاستبدادية قد تكون كارثية، ولعل الشعب السوري يدرك ذلك، فهو من دفع أكبر فاتورة كان ثمنها مئات الآلاف من الضحايا والملايين من المشردين واللاجئين، غير ما تم نهبه من خيرات الشعب، وتدمير لمقدراته البشرية والمادية.الرهان اليوم على وعي الشعب السوري الذي نجح في إدارة ثورته بشكل سلمي وحماية مؤسساته الوطنية والمحافظة على وحدته وتماسكه، ولعل الجيش والشرطة أديا دوراً مهماً في ذلك، فلولا تخليهما عن دعم النظام لما تسارعت وتيرة انهياره بهذا الشكل السريع، حيث كانت كلمة السر «إعادة التموضع» تشير بدلالة واضحة لا لبس فيها إلى عدم رغبتهما في مواجهة الثوار والشعب السوري.
صحيح أن الثورة نجحت في إسقاط النظام، لكن ما زال هناك بعض المحافظات التي ما زالت لا تخضع للسلطة المركزية في الدولة، لذلك على السوريين الدخول في مشروع المصالحة ضمن تفاهمات سياسية وطنية لتكون جزءًا لا يتجزأ من خريطة سورية، وضرورة إنهاء أي نفوذ عسكري للتنظيمات الإرهابية. على السوريين الحذر وعدم الانجرار وراء الفتنة التي تديرها بعض مواقع التواصل الاجتماعي والأقلام المشبوهة التي ستعمل خلال الفترة المقبلة على إذكاء روح الانتقام من خلال ترويج مشاهد العنف والطائفية والعنصرية لكي يدخل الشعب السوري في دوامة أخرى من الاقتتال، لذلك أنصحهم بمقاطعتها وترك محاسبة ومعاقبة المجرمين الذين تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء للقضاء.
هذه الانتصار العظيم على السوريين استثماره من خلال سرعة استعادة عمل مؤسسات المجتمع المدني، وحفظ السلم الأهلي بنزع السلاح من المنظمات والفصائل والمواطنين وحصره بيد الجيش والشرطة، وكتابة دستور بلا عيوب وبدون محاصصة يستطيع الحزب الفائز تشكيل الحكومة منفردًا أو من خلال تمكين الحزب الحاصل على الأكثرية النسبية من تشكيها بالتعاون مع أحزاب أخرى، والتأكيد على تمكين الأقليات من كوتا عادلة تمثلهم في البرلمان.
المرحلة القادمة تتطلب التعالي على الجراح وطي صفحة الماضي بكل ما فيها من آلام، والإيمان بحكمة الله سبحانه وتعالى بأن ما أبطأ عن أهالي سورية هو خير لهم.
فلاشات إسرائيلية: على ما يبدو أن الكيان الصهيوني لم يفوّت الفرصة بالاستفادة من الأوضاع السورية، وصمت المجتمع الدولي عن جرائمه المتكررة في قطاع غزة وجنوب لبنان، لذلك لم يتردد في المضي بمشروعه التوسعي من خلال إعلان الجولان جزءاً لا يتجزأ من إسرائيل، وضمه مساحات واسعة من الأراضي السورية، وتوجيه ضربات جوية عنيفة للبنى التحتية العسكرية والبحثية. لهذا الواقع الجديد الذي يريد فرضه الكيان الصهيوني على السوريين تداعيات على مستقبل سورية والمنطقة، فهو من جانب يريد تقليم أظافر سورية ليجعلها كالحمل الوديع، وفرض خريطة «بلادك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل»، كيف لا وهو يعتبر نفسه الشريك والمساهم الأول في خلع نظام الأسد، وإن على السوريين دفع فاتورة تلك المساهمة والقبول بهذا لواقع الجديد والرضوخ له.
فلاشات سورية: على الرغم من وجود المتطرفين وبقايا فلول البعث والمفسدين وما قام به الكيان الصهيوني من تدمير لمقدرات الشعب العسكرية والبحثية والبدء بتصفية وقتل العلماء فإن هذا الواقع لن يثني الشعب السوري عن النهوض وإعادة البناء والثقة بين أبنائه، وما النجاح الذي حققه خلال الأيام الماضية بالتعالي على الجراح ومآسي الماضي بتحويل مساره إلى مصالحة وطنية شملت الجميع في مشهد عظيم طوى معه أطول وأكثر المشاهد الدموية في التاريخ الحديث.
قد يفرح الكيان الصهيوني لبعض الوقت، لكنه حتمًا سيدفع ثمن هذه الغطرسة، فالشعب السوري ليس كأي شعب ولينظر إلى التاريخ وإلى التضحيات التي قدمها لنيل استقلاله وحريته بدءًا بالعصملية ومرورًا بالفرنساوي.
نقطة أخيرة بالرغم مما تم تدميره على يد النظام والجماعات الإرهابية والصهاينة، فإن ذلك لن ينال من إرادة الشعب السوري فهو من الشعوب التي لا تعرف اليأس ولديه من الإصرار والعزيمة ما يمكنه من إعمار وطنه وجعله وطناً آمناً قوياً والأيام دول.
ودمتم سالمين.