ما قل ودل: تحية للمعارضة السورية التي سحقت في أيام طغيان نصف قرن
مثلما أشرقت شمس السابع من أكتوبر سنة 2023، على عزة وفلسطين والعالم أشرقت شمس الحرية في الثامن من الشهر الجاري على سورية والأمة العربية لتعلن زوال حكم الطاغية بشار الأسد.
أبناء الشعب السوري الممثلون في هيئة تحرير الشام وقد أخذوا زمام المبادرة في تحرير البلاد من الطغيان وهم يطاردون شراذم جيش الطغيان، من حماة الى حلب الى حمص الى دمشق، وشباب سوري من قوات سورية الديموقراطية (الكردية) القادمون من دير الزور في الشرق وفلول الجيش السوري تفر أمامهم، وقوات أخرى من جنوب سورية، تخرج لتسحق فلول هذا الجيش في أيام معدودة بعد ظلم وطغيان دام أكثر من نصف قرن، منذ أن اعتلى حافظ الأسد الحكم في البلاد سنة 1971 في انقلاب عسكري وكان أحد قادة التشكيلات العسكرية لحزب البعث التي انقلبت على الوحدة المصرية السورية بعد ثلاث سنوات من قيامها في عام 1958 وهي الوحدة الأولى والأخيرة في التاريخ الحديث للأمة العربية.
الصراع على سورية
كانت سورية برئاسة المواطن العربي الأول شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية وقتئذ قد سعت الى هذه الوحدة مع مصر لمجابهة انقلاب يدبر له الشيوعيون فيها بدعم موسكو وآخر تدبر له تركيا بالتحالف مع واشنطن فوجد السوريون الأمان في أحضان مصر للخلاص من التهديد الشيوعي والإمبريالي في وحدة عربية تحمل شعار القومية العربية.
وقد صدر في عام 1964 كتاب «الصراع على سورية» للكاتب البريطاني «باتريك سيل»، ويعرض في الكتاب لهذا الصراع الذي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية، عندما كانت سورية تحت الانتداب الفرنسي في الوقت الذي استقلت فيه الأردن والعراق وتنافس الدولتان للسيطرة على سورية في مشروع وحدة كان يطلق عليها في هذا الوقت وحدة (الهلال الخصيب) لتخضع هذه الوحدة للنفوذ البريطاني وهي الوحدة التي قاومتها كل من مصر والمملكة العربية السعودية.
العروة الوثقى بين الشعبين السوري والمصري
وقد كانت مصر وسورية في وحدة لمدة ستة قرون، منذ عهد أحمد بن طولون (270هـ - 848م)، الذي أسس الدولة الطولونية في مصر سنة 266هـ، وبعد ضم سورية الى مصر اصبحتا دولة واحدة تحكم من مصر.
فلا عجب أن تكون بين مصر وسورية وشائج من القرابة والوحدة والثقافة والأدب وفي هذا السياق يقول شاعر النيل حافظ إبراهيم في حفل أقامه لتكريم جماعة من السوريين بفندق شبرد في 28/ 3/ 1908:
لِمِصرَ أَم لِرُبوعِ الشامِ تَنتَسِبُ
هُنا العُلا وَهُناكَ المَجدُ وَالحَسَبُ
وَلا يَمُتّانِ بِالقُربى وَبَينَهُما
تِلكَ القَرابَةُ لَم يُقطَع لَها سَبَبُ
إِذا أَلَمَّت بِوادي النيلِ نازِلَةٌ
باتَت لَها راسِياتُ الشامِ تَضطَرِبُ
ومن هنا فإن جراح سورية في هذه المرحلة هي جراخ مصر وإن دور مصر ودور الإعلام المصري فيها أكبر بكثير من استهانة بعض الإعلاميين بهذا النصر المؤزر للمعارضة السورية وأكبر بكثير من استنكار البعض لهذه الملحمة والبطولة السورية وإنكار البعض لها وتشاؤم البعض منها بدلا من التفاؤل بها كبصيص ضوء وأمل وخطوة على تحقيق الديموقراطية في الوطن العربي وتبديد ظلام الطغيان به.
والواقع أن هذا الفريق من الإعلاميين مصابون بعمى الألوان ولا يرون في السياسة إلا لونين الأبيض والأسود والأبيض هو كل من اقتنعوا به من آراء في مدرسة الرأي الواحد، أما الأسود فهو الرأي الآخر الذي لا يتفق وقناعاتهم.
ولهذا كذلك كان اختيار المعارضة الوطنية السورية على اختلاف أيديولوجياتها هذا التوقيت هو اختيار من توفيق الله، وروسيا تلملم جراحها في أوكرانيا، وإيران وحزب الله يتجرعان آلام التخريب والتدمير الذي أحدثه السلاح الجوي الإسرائيلي بلبنان وحزب الله، وإن صادف ذلك أو توافق مع رضاء العم سام في أميركا والاتحاد الأوروبي، الذي يرغب في التخلص من عبء اللاجئين السوريين في أوروبا وقوانين الاتحاد تمنحهم حق اللجوء، وحتى لو كان الأمر بالاتفاق مع أميركا وإسرائيل مستوطنة الاستعمار العالمي الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية للسيطرة على العالم.
البطة العرجاء
ومع ذلك فإن من حقنا أن نطرح سؤالا مشروعا وهو: هل كان ذلك بعلم أو بغير علم البطة العرجاء في البيت الأبيض، وهو اصطلاح يطلق على الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، والذي يتابع الأحداث بإصدار التصريحات ولا يكون شريكا في الأحداث، التي يبدأ في الاضطلاع بها الرئيس الجديد المنتخب، وقد بدأ ترامب بتصريحاته النارية (الدعائية) يهدد حماس والشرق الأوسط بالجحيم، إذا لم يفرج عن الرهائن قبل توليه سدة الحكم في البيت الأبيض في العشرين من يناير القادم كما زار ماكرون في باريس للتنسيق معه.
وأيا كانت الإجابة عن السؤال السابق فإن ذلك لا يقلل من فرحتي بفيالق النور والحرية من المعارضة السورية التي شاركت في هذا النصر المؤزر أيا كانت انتماءاتهم أو أيديولوجياتهم فهم جميعا إخوة في وطن واحد.
إلا أن البطة العرجاء وأيا كان الحزب الحاكم وقد تولت أميركا قيادة الاستعمار العالمي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية سواء كان الحزب الحاكم، الحزب الديموقراطي أم الحزب الجمهوري، في سياق المخطط الاستعماري الجديد، الأقل كلفة من احتلال المستعمرات والتنافس بين الدول الاستعمارية الكبرى على التوسع فيها في حربين عالمتين، ذلك أنه وفقا لبرنامج الرئيس الأسبق نلسون في مطلع 1918، بعد الحرب العالمية الأولى، المكون من 14 نقطة قد كفى الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة شر القتال بأن رسم ملامح الاستعمار الجديد الرئيسة للسيطرة على العالم واقتصاده من خلال السيطرة الاقتصادية (الجات والعولمة)، وجاء ترومان بعد الحرب العالمية الثانية ليرى بديلا آخر عن المستعمرات وكلفتها الشديدة هو الاستعاضة عن احتلال الأرض بزرع إسرائيل في هذه المنطقة لتكون مستوطنة الاستعمار العالمي الجديد فهي أشبه ما تكون بولاية أخرى للولايات المتحدة، خارج القارة الأميركية لتحقيق أهدافها وأهداف غيرها من الدول الاستعمارية الحليفة لضمان تفوقها على أي منافس لها وتحكمها والسيطرة على موارد الدول المستضعفة، والتي كان أغلبها محتلا ومستعمرا، وقد انتهجت أميركا سياسة جديدة مكملة لبرنامج نيلسون هو الاحتواء غير المحدود لمناطق الصراع الإقليمي والدولي، بزرع الفوضى في هذه المناطق، فأميركا دولة تتحرك لضمان تفوقها الدائم لأن البقاء للأقوى وهي الأقوى بلا منازع، في العالم كله وفي سورية وقد ضاقت ذرعا من وجود روسيا بقاعدتين عسكريتين في سورية ووجود إيران وحزب الله بدعم من إيران، وتركيا، فزرعت الفوضى في سورية وأرادت أن تبقى هذه الفوضى إلى أن تجد الفرصة المناسبة للتخلص من هذه الأطراف الإقليمية، ووجدتها كذلك في الخسائر الكبيرة التي لحقت بروسيا في أوكرانيا ولحقت بإيران وحزب الله في لبنان، ولا شك أو ريب أو جدل بل بيقين في أن الاستخبارات الأميركية CIA والموساد الإسرائيلي وغيرهما من مخابرات الدول الاستعمارية الحليفة التي تتعاون أجهزتها بتبادل المعلومات فضلا عن الأقمار الصناعية التي تعرف مع هذه الاستخبارات دبة النملة في العالم، قد أبلغت حكوماتها بتحركات المعارضة السورية، وقد تم ذلك بالتوافق أو الاتفاق مع هذه الحكومات، لإسقاط الأسد والتخلص من روسيا وإيران وحزب الله، وتركيا ولو في مرحلة لاحقة.
وربما هذا ما فعلته تركيا بأن دعمت المعارضة السورية تحت سمع وبصر أميركا بالسلاح والعتاد والمعلومات اللوجستية، بل تركت قوات سورية الديموقراطية (الكردية) والتي تحتل جزءا لا بأس به من أراضي سورية في الشرق، لإسقاط الأسد ونظامه ولكل حادث حديث عندما يسقط الأسد وباب زرع الفتنة مفتوح على مصراعيه، للاستفادة من المتناقضات الأيديولوجية بين فصائل المعارضة السورية أو زرع الفوضى في سورية، فخريطة الشرق الأوسط يجب أن تتغير وفقا لما أعلنه نتنياهو بتوسيع إسرائيل في الضفة وغزة كمرحلة أولى وأن تكون حدودها مع دولة منزوعة السلاح يتحقق حلمها الكبير من النيل الى الفرات.
وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.