في أزمنة الملمّات وفي ظروف الأزمات، تُختبر أواصر الإنسانية وتتجلى معاني التضامن الأخوي بين الشعوب، وها هي اليوم حملة «الكويت بدها سلامتكم» تسطع في سماء الكويت ولبنان كمبادرة مميزة أطلقتها السفارة اللبنانية في الكويت مشرعة أبوابها على مدى ثلاثة أيام ممتدة بين 6 و8 يناير 2024، لاستقبال التبرعات العينية التي تشمل الأدوية، المستحضرات الطبية، أدوات العناية الشخصية، والمستلزمات اليومية التي تُمثل شريان حياة المحتاجين اليها في لبنان.

لقد شكلت هذه الحملة، بشعارها الدافئ ومدلولاتها المعبرة، شعاع أمل وجسر ربط إنساني بين كويت الخير ولبنان الجريح الذي يعاني تداعيات عدوان إسرائيلي دامِ ودائم، أودى بحياة الآلاف وأجبر أكثر من مليون وربع لبناني على النزوح القسري، تاركًا وراءه دمارًا شاملاً في المدن والقرى والبنى التحتية والأسواق والمتاجر والمنازل.

Ad

وقد أحسن سعادة سفير لبنان في الكويت، الأستاذ أحمد عرفة، وأبدع فريق العمل المدعوم من مجلس الأعمال اللبناني في الكويت ومجلس السيدات اللبنانيات في الكويت، في إطلاق هذه الحملة وتنظيمها وفي اختيار شعارها المميز الذي يدل على أن الحملة تتجاوز فكرة المبادرة لجمع التبرعات، لتشكل رسالة تضامن وتأكيد على عمق العلاقة بين الشعبين اللبناني والكويتي.

فلطالما كانت العلاقة بين لبنان والكويت نموذجًا حيًا للتعاون الأخوي والتكافل العربي، ولطالما كانت أواصر التفاعل السياسي والشعبي بين البلدين عنوانها الواضح والصريح هو الوفاء الذي يقابل العطاء، فها هي الكويت- بوجهيها الرسمي والشعبي- تثبت مرة أخرى أنها أكثر من مجرد شقيقة داعمة لشقيقها الموجوع، بل هي شريك في إخراج قَبَس الأمل من حَلَك الألم، وهي المؤمنة دائماً بأن المسافة الجغرافية لا تعني شيئًا حين يتعلق الأمر بتلبية نداء الإنسانية.

فالكويت «ما بدها إلا سلامة لبنان واللبنانيين»، وهذا ما تمت ترجمته قولاً وفعلاً، وهذا ما ساهم حتماً في إنجاح هذه الحملة من خلال استثنائية التجاوب الشعبي الكبير بين الأوساط الكويتية واللبنانية والعربية على حد سواء، ناهيك عن المشاركة الواسعة من قبل السفارات والهيئات الدولية الصديقة للبنان.

فها هم «عشّاق بيروت القدامى» من الكويتيين ومن العرب المقيمين على هذه الأرض الطيبة يشاركون إخوانهم اللبنانيين- على كافة انتماءاتهم- في روعة اللقاء ومتعة العطاء للبنان الكليم ولأهله المصابين... وها هم الكبار والصغار، الأفراد والمؤسسات، يتشاركون- بقليلهم قبل كثيرهم- في صنع فرحة التجسيد السامي لكل معاني الإنسانية والأخوة وبتوجيه رسالة محبة الى لبنان، فكانت النتيجة على قدر التوقعات، وكانت المحبة أوسع من أن يحيط بأطرافها حدّ أو يلمّ بأبعادها وصف، ففي عالم يعجّ بالصراعات ويضجّ بالنزاعات، تبرز حملة «الكويت بدها سلامتكم» كنموذج مشرق للتضامن الإنساني، مثبتة مرّة أخرى أن الأخوّة العربية ما زالت حيّة في دواخلنا، وأن قدرتنا على التلاحم الدائم في وجه الصعاب هي ثابتة في وجداننا كرسوخ الأرز في جلمود الصخر وكتآلف النخل مع رمل الصحراء.

***

في ظل ما خلفه العدوان، ونتيجة للأزمات المتنوعة والمتراكمة التي شهدها لبنان في السنوات الأخير، يواجه هذا البلد الصغير تحديات كبرى على المستويات كافة... وبغض النظر عن توزيع المسؤوليات الإقليمية والداخلية، لا بد- من منطلق الأخوة والصداقة والإنسانية والواقعية السياسية- من إعادة التفكير والتركيز على استراتيجيات دعم مستدامة للبنان تُسهم في تعزيز استقراره الاقتصادي والاجتماعي كحل أمثل لضمان تخطيه الأزمات وبناء مستقبل أكثر استدامة لشعبه.

أولى هذه الاستراتيجيات، تتخطى المساهمة في إعادة بناء البنى التحتية والعمرانية، لتركز على قطاع الموارد البشرية، الذي يُعدّ الأساس لبناء مستقبل مستقر ومستدام، حيث من الملح والمفيد أن تتركز الجهور على دعم المؤسسات التربوية عبر إعادة تأهيل المدارس المتضررة وتوفير المعدات التعليمية، مع التركيز على توفير تعليم تقني ومهني يواكب متطلبات سوق العمل في لبنان والدول الشقيقة والصديقة.

وتأتي أيضًا المشروعات الإنسانية المستدامة كجزء أساسي من استراتيجية الدعم، حيث يمكن تقديم حلول طويلة الأمد لمشكلات مستعصية، فعلى سبيل المثال، يمكن العمل على مشاريع المياه والصرف الصحي وتأسيس مشروعات تعتمد على الطاقة المتجددة بما يسهم في تحسين جودة الحياة للبنانيين.

وفي السياق يمكن للشركات الكويتية الدخول في مشاريع استثمارية مدعومة من الجهات الحكومية المختصة الكويتية، فمما لا شك فيه أن القطاع الخاص يؤدي دورًا محوريًا في تحقيق الاستدامة، إذ من خلال التعاون بين الشركات الكويتية ونظيراتها اللبنانية، يمكن إنشاء مشروعات استثمارية تُسهم في توفير فرص عمل للشباب اللبنانيين وتعيد تنشيط الاقتصاد اللبناني عبر مشروعات في مجالات الطاقة، الصناعة، الزراعة، التكنولوجيا، مع ضمان إشراك القطاع الخاص الكويتي في عملية التعافي.

في النهاية، ورغم أهمية الدعم العربي ومساهمة الهيئات الدولية والمنظمات الإنسانية في إعادة الإعمار وفي إطلاق المشروعات التنموية المستدامة التي يمكن أن تساهم في رخاء الشعب اللبناني، فإن المساهمة اللبنانية في هذه الجهود تُعدّ من الركائز الأساسية لضمان استدامة عملية التعافي بعد الأزمات المتلاحقة التي مر بها لبنان. تؤدي القوى اللبنانية، سواء كانت حكومية أم مدنية أم شعبية، دورًا محوريًا في إعادة بناء المدن والبنية التحتية المتضررة من العدوان الإسرائيلي الأخير، وهنا تبرز أهمية أن يقتنع اللبنانيون بضرورة تضافر جهودهم وتشتيت أسباب انقساماتهم بهدف تحسين ظروف الحياة اليومية وتوفير مستقبل أفضل للشباب... من هنا، يُشكل توحيد الصفوف والتعاون بين مختلف القوى السياسية والشعبية أولوية لمواجهة التحديات بفعالية والعمل نحو إيجاد حلول مستدامة.

إضافة الى ذلك فإن بناء مؤسسات شفافة وموثوقة تُحقق العدالة وتُعزز من سيادة القانون، يُعدّ خطوة مهمة نحو بناء لبنان جديد يستند إلى التعاون والنزاهة والتطوير المستدام، مما يزيد ثقة الداعمين له، ويضاعف فرص المساعدات ووصولها إلى مستحقيها.

* كاتب ومستشار قانوني