مدني قصري يتتبع علاقة الفن والدين في بحث دوبوي
المترجم الجزائري نقله من «الفرنسية» للعربية... والجريدة• تستعرض ملامحه
انتهى المترجم الجزائري مدني قصري من نقل بحث مهم من اللغة الفرنسية إلى العربية بعنوان «الفن والدين... ناقلان للحوار بين الثقافات»، حيث تشير الباحثة الفرنسية أمالي دوبوي فيه إلى أن «الفن والعقيدة تجمعهما روابط وثيقة منذ أقدم عصور الإنسانية، هي التي حددت ثقافاتنا وروحانيتنا. هذه العلاقات، التي تكون أحياناً فوضوية، وغالباً ما تعكس سعينا نحو السمو، حيث كان الفن، المتحرر من كل سُلطة، في كثير من الأحيان، بمنزلة ناقل للمذاهب الدينية، مع احتفاظه بجوهره الخاص. ويصبح العمل الفني بعد ذلك جسراً للتواصل وطقوساً روحية وفنية».
علاقة تاريخية
خلال عصر النهضة، خضع الفن الديني لتحوّلٍ كبير في مفهومه وفي التعبير عنه. الإنسانية، التي وضعت الإنسان في مركز التفكير أثَّرت على التمثيل الفني للموضوعات الدينية. بدأ الفنانون في دمج المزيد من الواقعية والتفاصيل في أعمالهم الفنية، بناءً على التقدُّم في علم التشريح.
عصر النهضة شهد بداية دمج الواقعية في الأعمال الفنية
وتميزت الأعمال الفنية الدينية في ذلك العصر باهتمام أكبر بالأجساد والمشاعر الإنسانية، ولعب رعاة الفن، بما في ذلك المؤسسات الدينية والحُكام، دوراً رئيساً في هذا التطور. ومثال على ذلك مارتن لوثر، وهو كاهن ألماني، وجون كالفين، وهما شخصيتان دينيتان بارزتان في عصر النهضة، وكان لهما تأثير على الفن الديني في تلك الحقبة، كما كان الطلاء الزيتي، الذي أعطى عمقاً أكبر للأعمال، يُستخدم غالباً في رسم اللوحات الدينية، فضلاً عن دور الصراعات السياسية والدينية وقتذاك، وتأثيرها على الفن الديني، ما أدى إلى تدمير أعمال عديدة، ورغم هذه التحديات، استمر الفن الديني في الازدهار والتطور، مع التركيز بشكل خاص على التعبير عن البُعد الإلهي من خلال الإنسانية والطبيعة.
الروحانية والفن المعاصررغم تعريف الفن المعاصر في أحيان كثيرة بتحرره من التقاليد والمؤسسات، فإنه لا يمكن إنكار أنه يتأثر بالروحانية. وبعيداً عن التمثيل الحرفي للآلهة أو المشاهد الكتابية، يعكس الفن المعاصر سعياً روحياً أكثر تجريداً وشخصياً، ولا تقتصر الروحانية في هذا السياق على الدين المنظم، بل يمكن أن تشمل أيضاً الشعور بالترابط مع الكون، أو استكشاف اللاوعي، أو المواجهة مع سر الوجود.
الفن الإسلامي يفضل الأنماط الهندسية والخط العربي... والمسيحي ينقل تعاليم الكنيسة
يستخدم بعض الفنانين المعاصرين الرموز الدينية لمساءلة العقائد الدينية أو انتقادها، فيما يستكشف آخرون المفاهيم الروحية بطريقة أكثر دقة، من خلال استحضار ضخامة الكون أو زوال الحياة.
ووفق البحث، يتخذ الفن الديني أشكالاً مختلفة اعتماداً على الثقافة، ما يشهد على ثراء وتنوع التعبيرات الروحية، ففي الثقافة الإسلامية يتميز الفن بغياب التمثيلات البشرية والحيوانية في أماكن العبادة، وتفضيل الأنماط الهندسية والخط العربي، ما يعكس نهجاً مجرداً وغير وثني تجاه البُعد الإلهي.
وفي المسيحية، يقدم الفن الديني تصويراً رمزياً لمشاهد الكتاب المقدس، والقدّيسين، ويسوع، ويعمل على نقل تعاليم الكنيسة، ورفع عقول المؤمنين نحو الروحانيات.
فنون أميركيةمن جانبها، تستخدم الفنون الأميركية الأصلية (المرتبطة بالسكان الأصليين- أي الهنود) رموزاً طبيعية، ما يعكس روحانية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأرض والبيئة. وفي الهند، يتميز الفن الهندوسي والبوذي بوفرة من الآلهة الملوَّنة والمزخرفة بشكل غنيّ، ما يؤكد تنوع وتعدد المسارات الروحية.
وهكذا، فإن كل ثقافة تقدِّم رؤيتها الخاصة للروحانية من خلال الفن، ما يخلق فسيفساء من التعبيرات الفنية التي تثري فهمنا للبُعد الروحي للبشرية.
العلمانية أنشأت ديناميكية جديدة بين السُّلطة والفن والدين تقوم على التعايش
سياق علماني
من ناحية أخرى، أنشأت العلمانية ديناميكية جديدة بين السُّلطة والفن والدين. ففي السياق العلماني تكون الدولة مستقلة عن أي انتماء ديني، وتضمن حرية العبادة، ما يخلق بيئة يمكن أن يتعايش فيها الفن والدين دون تدخل سياسي مباشر. وقد أتاح هذا للفن استكشاف موضوعات دينية بمزيد من الحرية، مع احترام مبدأ الحياد العام. وبالمثل، تؤثر العلمانية على طريقة فهم الفن الديني وتفسيره.
الحوار بين الثقافات
الفن والدين مجالان مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالثقافة، يمكن أن يكونا بمنزلة حافز للحوار بين الثقافات، فمن خلال قدرته على تجاوز الحواجز اللغوية والثقافية يقدم الفن وسيلة عالمية للتعبير، إذ يتيح لنا تبادل الأفكار والانفعالات والخبرات، بالتالي تعزيز فهم وتقدير أفضل للتنوع الثقافي.
ومن ناحية أخرى، يمكن للدين، باعتباره نظاماً للمعتقدات والممارسات، أن يسهم أيضاً في هذا الحوار، حيث يوفر نظرة ثاقبة لقيم المجتمع وتقاليده، ووجهات نظره، ما يسمح بإثراء التبادل حول أوجه التشابه والاختلاف بين الثقافات المختلفة.
وفي هذا السياق، يمكن للفن الديني، الذي يدمج هذين المجالين أن يكون قوياً بشكل خاص، باعتباره ناقلاً للحوار بين الثقافات، فهو لا يستكشف التقاطع بين الفن والروحانية فحسب، بل يربط أيضاً بين الثقافات والتقاليد الدينية المختلفة.
يُشار إلى أن مدني قصري أنجز العديد من الترجمات المهمة، في مجالات عدة، أبرزها رواية «فتاة البرتقال» للكاتب النرويجي غوستاين غاردر، بجانب اهتمامه بترجمة الأبحاث والمقالات العلمية من اللغة الفرنسية إلى العربية، والتي جمع عدداً منها في كتاب بعنوان «من برج بابل إلى أبراج نيويورك».