لا يزال «الديموقراطيون» يعانون صدمة الخسارة أمام دونالد ترامب مرة أخرى، وفي حين يستمر التلاوم والتفكير العميق، كتب الصحافيون والناشطون «تحليلات تشريحية» لفهم أسباب الهزيمة والدروس المستفادة منها، لن أكون متشككاً جداً بشأن جدوى هذه التحليلات، لو لم تكن تركز بشكل محدود على هذه الانتخابات فقط، وكأن هذه المشاكل ظهرت فجأة، ولو لم يكن من المرجح أن يتم تجاهلها ونسيانها بسرعة، أي تحليل جاد يسعى إلى فهم ما حدث في الخامس من نوفمبر، يجب أن يبدأ بالاعتراف بأن بذور هذه الهزيمة «الديموقراطية» زُرعت منذ عقود، قبل أسابيع قليلة، كتبت مقالاً ألقيت فيه باللوم على جهات محددة، لكنني الآن أرغب في النظر بعمق أكبر في القوى التي تشكل المشهد السياسي لدينا:
1- التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية العميقة في الحياة الأميركية، تركت ملايين الناخبين في حالة من الاضطراب وعدم الأمان والغضب، إنهم يبحثون عن اليقين، تاريخياً، كانت الشعوب التي تعرضت لمثل هذه الاضطرابات تميل إلى أشكال من الأصولية- فتجد اليقين في ماضٍ أسطوري ومجيد- أو إلى «قادة أقوياء» يفهمون معاناتهم.
2- بالإضافة إلى التغيرات المجتمعية، تركت الأحداث التحويلية الدرامية جروحاً عميقة في نفسية الأميركيين، فالهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر والحروب الفاشلة في العراق وأفغانستان جعلت الأميركيين يشعرون بالضعف مع تراجع مكانتنا في العالم، أضف إلى ذلك الانهيار الاقتصادي في عامي 2008 و2009 الذي حطم الثقة بالحلم الأميركي، وحوادث إطلاق النار الجماعي المتكررة، والتأثيرات المؤلمة لكوفيد19، وستجد مجتمعاً على حافة الانهيار.
3- في ظل هذا السياق، يصبح رد فعل القيادة السياسية على الناخبين القلقين أمراً بالغ الأهمية، فمنذ رئاسة نيكسون حتى اليوم، كان هناك خيط ثابت في استراتيجية «الجمهوريين» يتمثل باستغلال مخاوف وانعدام أمان الناخبين، مستهدفين في البداية «المستفيدين السود من الرفاهية الاجتماعية» أو «المجرمين». قام ترامب بتوسيع قائمة الأهداف لتشمل المهاجرين، خاصة المكسيكيين والمسلمين، و«الدولة العميقة»، وعملياً أي معارض له، مستخدماً «الخوف من الآخرين» كسلاح قوي، أما «الديموقراطيون» فقد بدوا منفصلين عن تحديات معظم الناخبين، وفشلوا في التحدث إلى معاناتهم. بدلاً من ذلك، تحدثوا عن برامجهم، وتقدمهم في خلق الوظائف، وحماية البيئة، والدفاع عن خيارات الرعاية الصحية للنساء، والدعوة إلى نهج متوازن للهجرة، رغم صحة هذه السياسات، فإن خطابهم يجعلهم يبدون بعيدين عن الواقع، أو متعالين، أو حتى مستهترين، يريد الناخبون مرشحين يفهمون شعورهم بانعدام الأمن لديهم وغضبهم، وكان بعض «الديموقراطيين» فعالين في القيام بذلك: فقد حول باراك أوباما الناخبين من الخوف إلى الأمل، لقد أظهر بيرني ساندرز وجو بايدن للناخبين غضبهما إزاء عدم المساواة في الدخل وفقدان الوظائف، ووعدا بالقتال من أجلهم.
4- لعقود، كان «الديموقراطيون» الحزب الذي يدعم العدالة الاقتصادية للعمال ويؤمن بدور الحكومة، في حين كان «الجمهوريون» حزباً يحمي الأثرياء، معلنين «خفض الضرائب، وتقليص دور الحكومة».
اليوم، كما تفاخر أحد أعضاء مجلس الشيوخ «الجمهوري» مؤخراً، «لقد أصبحنا حزب الطبقة العاملة، في حين أصبح الديموقراطيون حزب النخب»، هذا غير صحيح، لكنهم نجحوا في خلق هذا التصور، كيف؟ إذا سألت ديموقراطياً اليوم عما يمثله الحزب، فستحصل على محاضرة حول مجموعة من القضايا الاجتماعية دون خيط يربطها أو يجعلها ذات صلة بالناخبين من الطبقة العاملة، وإذا سُئل «الجمهوريون» عما يمثلونه، فلن يقولوا خفض الضرائب، وبدلاً من ذلك سيرددون قائمة ترامب من «الأعداء» والقضايا الثقافية التي يكرهها «الديموقراطيون». أو سيقولون ببساطة: «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، وهي عبارة شاملة تستحضر العودة إلى «المجد» الماضي، ومقاومة التغيير الثقافي، أو الدفاع عن ترامب، وكما قال إعلان تلفزيوني جمهوري ناجح: «هي تقاتل من أجلهم، وهو يقاتل من أجلنا».
5- كانت الأحزاب السياسية في الماضي تقود السياسة المنظمات الحقيقية من المستوى المحلي، إلى مستوى الولاية، إلى المستوى الوطني. وكان الناس ينتمون إلى الأحزاب، واليوم، أصبحت الأحزاب أدوات لجمع التبرعات، وتكدس الثروات لدفع أجور المستشارين الذين يديرون الحملات الانتخابية والأحزاب نفسها، وفي حين يسهم العديد من الناخبين بمبالغ صغيرة، فإن كبار المانحين يسهمون بمبالغ تصل إلى سبعة وثمانية أرقام، ومستشارو «الديموقراطيين» هم المجموعة نفسها التي كانت تدير السياسة وتفسدها لعقود، يتبعون القواعد نفسها دون إدراك للناخبين المتغيرين، وبسبب افتقارهم إلى الخيال وكرههم للمخاطرة، فإنهم يقيدون المرشحين حول ما يمكنهم قوله وما لا يمكنهم قوله.
أما ترامب، فقد حرر نفسه من قبضة المستشارين الجمهوريين، متبعاً قناعاته وهو ما اعتبره الناخبون أصيلاً، فما حدث في هذه الانتخابات كان يتراكم منذ عقود، وما لم ينظر «الديموقراطيون» بجدية إلى أسباب فقدانهم الاتصال بالناخبين من الطبقة العاملة وكيف أنهم سمحوا للمستشارين بالسيطرة على رسائلهم وأساليب التواصل، فقد تتكرر هزيمة الخامس من نوفمبر.
* رئيس المعهد العربي - الأميركي في واشنطن.