رحلتي مع مستشفى الضمان «1-2»
تحية إجلال وإكبار أرفعها للعهد الجديد الذي أتاح لي أن أرى حلمًا راودني منذ عشرين عامًا يتحقق أمام عيني. حلمٌ غرسنا شجرته منذ وقتٍ طويل، وها هو اليوم يُثمر من خلال انطلاق مستشفيات الضمان للعمل بثباتٍ وعزم. وأخص بالتحية سمو رئيس الوزراء ونائبه الأول اللذين كانا على دراية عميقة بحجم التحديات التي تواجه القطاع الصحي، وعزمهما على مواجهة تلك التحديات، حتى أطلقا شرارة التغيير من خلال هذه المستشفيات.
بعد عام من استلامي وزارة الصحة عام 1999، أدركت أن النهوض بالرعاية الصحية في الكويت يتطلب إصلاحًا جذريًا للنظام الصحي. كان النظام السائد حينها، وهو نظام الدفع المباشر، هو النظام الحالي حيث تقوم الوزارة بجميع الأدوار، ويحتفظ وكلاؤها بكل الصلاحيات والوجاهات. فهي تقوم بدور المنظم والمخطط، ودور مقدم الخدمة في المستشفيات، ودور المراقب والمحاسب، ودور الممول، وهذا ما ترفضه جميع النظم الحديثة.
أدركت سريعًا أن التغيير لن يكون سهلًا، فسوف تواجه الفكرة مقاومةً شرسة من داخل الوزارة نفسها، ومن أصحاب المصالح المرتبطة بالنظام الصحي التقليدي، والشركات الكبرى المستفيدة، إلى جانب معارضة بعض أعضاء مجلس الأمة الذين رأوا في النظام القائم فرصة لتعزيز الواسطة والمصالح الضيقة.
ورغم تلك التحديات، لم أفقد الأمل. كنت على يقين بأن التغيير لا بد أن يبدأ بحلول مبتكرة ضمن الإطار القانوني القائم. ومن هنا انطلقت رؤيتي لإنشاء مشروع «مستشفيات الضمان الصحي». الفكرة كانت بسيطة في جوهرها لكنها طموحة في أهدافها: إنشاء شبكة من ثلاثة مستشفيات حديثة مخصصة لخدمة الوافدين، يقوم عليها القطاع الخاص بنظام التأمين بكفاءة، وبإشراف مباشر ودقيق من وزارة الصحة، دون الحاجة إلى تشريعات جديدة.
تعمل هذه المستشفيات على تخفيف الضغط عن مستشفيات وزارة الصحة بنسبة تصل إلى 40%. هذه النسبة الكبيرة كانت ستتيح للمستشفيات الحكومية فرصة حقيقية لإعادة ترتيب أوراقها، والارتقاء بمستوى خدماتها، بعيدًا عن ضغوط الأعداد الهائلة من المراجعين. ومن خلال هذا النموذج، تتحول كل منطقة صحية بمستشفاها ومراكزها الصحية إلى شركة حكومية تُدار على نمط القطاع الخاص ولكن تابعة لهيئة الاستثمار، على غرار النظام الصحي المعمول به حاليًا في المملكة العربية السعودية.
كان الهدف الأسمى لهذا المشروع أن نفصل بين دور وزارة الصحة كجهة تخطيط ورقابة، وبين تقديم الخدمات الصحية، وهو الدور الذي لطالما كان معقلًا للوساطات والمحسوبيات وسوء الإدارة، والترقيات الباراشوتية، وكذلك بين دور التمويل.
بإيمانٍ عميق بهذا الحلم، قمت بعرض المشروع على مجلس الوزراء، حيث لقي دعم القيادة السياسية، كما حرصت على تقديمه للتكتلات السياسية في مجلس الأمة كل على حدة، ووجدت أن هذا المشروع استطاع توحيد الرؤى المختلفة بسبب أهميته الواضحة، ولأنه لم يمس جيب المواطن الكويتي.
كذلك، قمت بعرض الفكرة بشكل مبدئي على زملائي وزراء الصحة في مجلس التعاون الخليجي، وقد استحسنها الجميع آنذاك. والمفارقة المحزنة أن دول الخليج بادرت بتطبيقها بصورة أو بأخرى، بينما تأخرت الكويت حتى يومنا هذا، ولا يزال العديد من القيادات الصحية يصرون على التمسك بنظامٍ تخطاه الزمن.
لتنفيذ المشروع بطريقة احترافية، استحدثت إدارة متخصصة للتأمين الصحي ووكالة للضمان الصحي في وزارة الصحة، وحرصت على اختيار قيادات كفؤة لإدارة هذا الملف الحيوي. وهنا لا بد من الإشادة بالدكتور إبراهيم العبدالهادي، الذي تولى هذه المسؤولية بكل اقتدار.
لم تكن رحلة تخصيص الأراضي للمستشفيات سهلة. بدأنا العمل على ذلك منذ عام 2001 بالتعامل مع العديد من الجهات الحكومية، مثل البلدية ووزارة الأشغال ووزارة النفط ووزارة المالية، وتمكنا بحمد الله بعد زهاء ثلاث سنوات من تخصيص ثلاثة مواقع استراتيجية في شمال الكويت ووسطها وجنوبها، والتي تقوم عليها مستشفيات الضمان اليوم.
كانت ثمة عقبة آنذاك تتمثل في وضع إطار تنظيمي واضح لاستغلال هذه الأراضي، وضمان قبول جميع الأطراف المعنية بالمشروع. اقترحنا آنذاك أن تقدم الحكومة دعمًا جزئيًا لأصحاب العمل والخدم لتخفيف الأعباء المالية عليهم، مما جعل المشروع أكثر واقعية وقبولًا. وبدأنا حوارًا واسع النطاق مع شركات التأمين لبلورة رؤية لإطار عمل المستشفيات، وتفاصيل كثيرة عن البوالص ومحتواها وغيرها.
للأسف، لم أتمكن من إكمال المسيرة بسبب مغادرتي للوزارة، وتوقف المشروع لفترة طويلة. لكن الأمل ظل حيًا بداخلي. كنت دائمًا على يقين بأن هذا الحلم سيجد من يحييه، وسيكون حقيقة تضيء درب القطاع الصحي في الكويت.
واليوم، ومع انطلاق مستشفيات الضمان، أشعر بفرحة لا توصف. هذا الإنجاز ليس فقط تحقيقًا لرؤية قديمة، بل هو رسالة أمل لكل من يؤمن بأن العمل الجاد والصادق لا يضيع مهما طال الزمن.
هذا الجزء الأول من رحلتي مع مستشفى الضمان، وسأواصل في الجزء القادم توثيق الجهود والتحديات التي واجهناها لتحقيق هذا المشروع الوطني الرائد.
وللحديث بقية.
*وزير الصحة الأسبق