باحث عن المنطق

نشر في 23-12-2024
آخر تحديث 22-12-2024 | 20:09
 جاسم السعدون

قبل البدء بصلب المقال، لا بأس من استدراك مضمونه، وأنه لا أحد لديه غيرة على بلده لا يدعم مبدأ سحب جنسية المزوِّر، ليس ذلك فقط، إنما عقابه وعقاب كل مَن سهّل حصوله عليها، شراءً أو تدليساً أو كسب ولاء، فمن يشترِ أو يبع وطناً فإن انتماءه له قضية سعر ومنفعة لا أكثر. ما نحن بصدده وضده هو ذلك التحول من مهمة مقدرة لملاحقة جريمة التزوير إلى تجريد مواطنين من جنسياتهم ربما لاكتشاف أن عدد المزورين أو صعوبة كشفهم لا يتناسب مع الزخم الإعلامي الذي رافق تلك البداية، فأصبح المستهدف هو زيادة الرقم حتى يتناسب مع الزخم.

وأجزم بأن لذلك التوسع تداعيات وخيمة على كل مستوى، منها ما هو سياسي، ومنها الاجتماعي، والاقتصادي، والأمني، والإنساني، وكل منها يحتاج إلى مقال منفصل ومفصل، وفي المقابل، لا يقابل ذلك الثمن الباهظ مكسب أو نفع يُذكر لصالح البلد، لذلك، كان عنوان المقال هو البحث عن المنطق. الكويت المحاطة بثلاث دول إقليمية عظمى، ما يعني أن قوتها الحقيقية في تماسكها ووحدة جبهتها الداخلية، تقوم طوعاً بتمزيق تلك الجبهة دون حتى أن يكون لديها أي إجابة عن ماذا بعد الخطوة الأولى؟

لا نملك رقماً لقياس حجم الكارثة المنتظرة، ولكن الأرقام المتداولة هي أن هناك نحو 50 ألف جنسية مُنحت وفق المادة الثامنة لكويتيات اكتسبنها بالزواج من كويتيين، وأمضين المدة المقررة بالقانون للحصول عليها. المتداول هو أن فقد الجنسية طال حتى الآن نحو 24% منهن، أو نحو 12 ألف حالة، وعند هذه الحدود هو مأساة، ولكن المرجح أن هناك نحو 38 ألف حالة في الطريق، وإذا افترضنا أن الأسرة الكويتية مكونة من 6 أفراد في المتوسط، أو زوج وزوجة و4 أبناء فإن ذلك يعني إيقاع عقوبة وألم وغضب وإرباك لنحو 300 ألف كويتي، أو نحو 17% من إجمالي عدد المواطنين. تلك فقط الأرقام التي طالها عقاب وألم مباشر، بينما الواقع هو أن الألم غير المباشر سيشمل أقرب الناس لهم من أقارب وأصدقاء، ولن يقل عن عدد مماثل، ما يعني أن واحداً من كل ثلاثة مواطنين سيطاله الألم والغضب، ولا بأس لو كان هناك جرم ارتكبوه، ولا بأس لو كان دفع ثلث المواطنين إلى تلك الحالة البائسة يقابله من يستطيع أن يشرح لمن تبقى حجم المنافع التي تحققها الكويت بما يفوق ذلك الثمن الباهظ، لكنني لم أتمكن من تخيل مكسب واحد.

ولن أذهب بعيداً في حصر كل تكاليف واقعة الفقد، وأعتقد أن مجرد استعراض نماذج لها يكفي، بالإضافة إلى أن تمزيق الجبهة الداخلية يجعلها عرضة لمخاطر من الخارج والداخل. الخلاصة هي انخفاض نسبة الكويتيين من إجمالي عدد السكان، ما يزيد التركيبة السكانية خللاً أكثر مما هي مختلة، وبدلاً من تذويب إنساني لقضية البدون، سوف تنتفخ ومحيطها يتسع، ونطاقها الجغرافي يتوسع، ومعها سيزداد سوءاً سجل الكويت في قضايا حقوق الإنسان، ما يجعل رصيد سمعتها يتآكل، وذلك يعني انحسار مستوى التعاطف لو، لا قدر الله، حدث شيء سيئ لها.

على الساحة السياسية باستقطاباتها المريضة حالياً، ستطغى العاطفة والشعور بالغبن على قوى العقل والمنطق، وقد تنحاز أعداد كبيرة ظلمت إلى أقطاب طامعة في السلطة أو السيطرة، والخطورة هي أن ميلها سوف يحدث لمجرد الانتقام حتى لو كان القادم سيئاً. ذلك يعني أن الكويت التي جُبلت منذ نشأتها على تسوية خلافاتها بالتشاور، باتت للأسف تميل إلى خاصية التنافر والصدام لو خرج خلاف الطامحين إلى السلطة إلى العلن.

وعلى الساحة الاقتصادية والمالية، وفي غياب الحد الأدنى للاستعداد لما بعد الخطوة الأولى على خطئها وخطورتها، سيحدث إرباك لكل نشاط من الاستحقاقات للمصارف إلى سوق العقار إلى عزوف عن الاستثمار وعن بعض الاستهلاك. وبيئة الأعمال في الكويت بواقعها الحالي طاردة وصعبة ومقيدة بيروقراطياً، ومحبطة للاستثمار المباشر المحلي والأجنبي، وإضافة عنصر محبط لا يعرف أحد مداه، وسوف يكون تأثيره جسيماً، تتبنى الكويت مساراً معاكساً تماماً لما تحتاجه لإصلاح اقتصادها.

وعلى الساحة الاجتماعية، تتسبب تلك القضية في تفكك العلاقات الإنسانية ضمن المجتمع الصغير للأسف، فهناك من تضرر ظلماً، ويقابله شامت لا مسوغ له، وبات من المؤسف أن يصدر خبر يطلب من المقبلين على الزواج التحقق من أن الزوجة القادمة ليست ضمن المهددين بفقدان الجنسية وأصبح هناك أم، وربما جدة، زوجة أو أرملة أو مطلقة، في وضع الضياع التام، فهي بلا وطن، وربما بلا هوية، بينما أبناؤها وبناتها في مناصب بمؤسسات الدولة، وربما يخجلون عن الإفصاح عن حقيقة وضع أمهم أو جدتهم.

وكأن ذلك لا يكفي، فتعديل أوضاع الفاقدين ظلماً لجنسياتهم، سوف يخضع لمنهاج التجربة والخطأ مع إدارة عامة ضخمة وبيرقراطيتها عقيمة، ومن المحتمل أن تتحول محاولتهم لتعديل أوضاعهم إلى جهد يشغلهم ما تبقى لهم من حياة، ويشغل الإدارة العامة معهم بعيداً عن قضايا استدامة أهم بكثير.

في الختام، المواطنة قيمة أصيلة وثابتة لمن اكتسبها بحق، وفي العالم حولنا، ينص الدستور الكندي مثلاً على تسيير أساطيل البلد للدفاع عن مواطن، ومعظم المواطنين مهاجرون، والغرض من النص معنوي هدفه التطمين وتأصيل الولاء، وحكم أعظم دولة على مدى ثماني سنوات ابن مهاجر مسلم إفريقي أسود، وتزامن على رئاسة الحكومة البريطانية وحكومة أسكتلندا، مهاجر من أصول هندية للأولى، ومهاجر من أصول باكستانية للثانية، وكررا خلاف المهاتما غاندي ومحمد علي جناح في الهند في عام 1947 عندما انحاز الباكستاني لأفضلية انفصال اسكتلندا عن بريطانيا العظمي.

في الكويت، قرار فقد الجنسية لمواطنين مزاد بيع بالجملة، من أجل ثمن بخس إن وجد، ومن دون معاينة، ليس لأن أغلبيتهم الساحقة لم يستوفوا متطلبات الحصول عليها، إنما لأن حكومات رشيدة متعاقبة ارتكبت بحقهم خطأ إجرائياً، وأصدرتها بقرار لا بمرسوم، وذلك أمر لا يقبله عقل أو منطق، فمن ارتكب الخطأ آمن، والبريء يعاقب. لا أملك قراراً لتغيير هذا الواقع المؤلم، كل ما أملكه هو اعتذار وأمل، اعتذار لشركائي في الوطن عن عمق ما تعرضوا له من ظلم وألم، وآمل أن يتغلب المنطق ويتحقق وعياً مبكراً بحجم المصيبة، وتتوقف إجراءاتها، ويعاد الاعتبار لمن ظلم من شركاء الوطن.

back to top