رحلتي مع مستشفى الضمان... (2 - 2)

نشر في 24-12-2024
آخر تحديث 23-12-2024 | 18:38
 محمد الجارالله

بعد مغادرتي وزارة الصحة، واجه مشروع مستشفيات الضمان تحديات جسيمة كادت تعصف به تماماً، وعلى الرغم من الدعم السياسي والشعبي الكبير الذي حظي به المشروع في البداية، فإن غياب القناعة والإرادة لدى بعض الوكلاء الجدد بالوزارة أدى إلى اتخاذ قرارات حاسمة، منها إلغاء وكالة التأمين والضمان الصحي التي أسستها أثناء فترة وزارتي، مما أدى لتوقف المشروع سنوات طويلة.

في إحدى المرات، علمت بانعقاد اجتماع رفيع المستوى ضم رئيس مجلس الوزراء آنذاك وعدداً من وكلاء وزارة الصحة. خلال الاجتماع، طرح بعض الوكلاء موضوع مستشفيات الضمان بمنظور سلبي، وتم وصفه بشكل مثير للجدل وكأنه مشروع تمييز عنصري مشابه لنظام جنوب إفريقيا البائد. أدركت حينها خطورة هذا الطرح وانعكاساته السلبية على المشروع، فبادرت بالتواصل مع سمو الشيخ ناصر المحمد، حفظه الله، وشرحت له الفكرة بصورتها الحقيقية: مستشفيات مخصصة للوافدين بمستوى عالٍ من الجودة، مع إشراف كامل من وزارة الصحة، وبما يتماشى مع أفضل الممارسات العالمية. وقد لقيت الفكرة دعمه وتقديره.

وبعد عامين من ذلك اللقاء، كنت في زيارة للمغفور له الشيخ صباح الأحمد، يرحمه الله، الذي كان مطلعاً على المشروع منذ بداياته. وأثناء الحديث معه عن تعثّر المشروع، أبدى استياءه الشديد من توقفه، وأوصى أحد المسؤولين في الديوان الأميري بالتواصل مع الوزارة لمتابعة الأمر. هذا التدخل أحدث حالة من الحراك داخل أروقة الوزارة، إلا أن المشروع سرعان ما عاد إلى حالة الركود لغياب الإرادة الحقيقية بالوزارة لمتابعته.

اقرأ أيضا

تحدثت مع معظم الوزراء الـ 17 الذين تولوا وزارة الصحة خلال العشرين عاماً الماضية. كان منهم من لا يعرف شيئاً عن مشروع الضمان، ومنهم من اعترض بناءً على توصيات وكلائه، ومنهم من وافق على أهميته، ثم ما لبث أن تراجع بعد أن استمع لوكلائه ضيقي الأفق. كانت الحجج التي يثيرها هؤلاء الوكلاء واهية، مثل التساؤل: «كيف يستطيع الضمان بتسعمئة سرير أن يعالج مليوني وافد؟ نحن لدينا سبعة آلاف سرير في وزارة الصحة ونعاني في علاج أربعة ملايين!»، والرد عليهم كان واضحاً: لماذا يستطيع الاستشاري في المستشفى الخاص بالكويت إجراء أربعين عملية في الشهر، بينما نفس الاستشاري في المستشفى الحكومي يجري ثلاث عمليات فقط؟

ثم جاءت شماعة الخلاف القانوني في شركة الضمان لتضع الوزارة اللوم عليه، رغم أن هذا الأمر لا علاقة للوزارة به. الواجب كان أن تتدخل الوزارة لحل هذه الخلافات، كما تدخل النائب الأول مؤخرًا وفرض حلولًا للمشكلات.

إحياء المشروع

بدأ المشروع يستعيد عافيته مع تعيين د. إبراهيم العبدالهادي وكيلاً أول لوزارة الصحة. كان د. إبراهيم من أبرز الداعمين للمشروع خلال فترة وزارتي، ويدرك تمامًا أهميته للنظام الصحي في الكويت، وبفضل جهوده الحثيثة تمكن من إعادة إحياء المشروع ووضعه في صيغة قانونية عام 2014 تقريبًا، حيث أقر مجلس الأمة هذا القانون، مما اعتُبر إنجازًا كبيرًا للقطاع الصحي في الكويت.

ولكن مع الأسف، بعد مغادرة د. إبراهيم للوزارة، بدأ الحماس تجاه المشروع يخفت. وعلى الرغم من توقيع العقود بين هيئة الاستثمار والشريك الاستراتيجي لإنشاء المستشفيات، استمرت العرقلة من قبل وزارة الصحة بطرق متعددة، مما أدى إلى تعطيل العمل وتأخير الإنجاز.

عراقيل وزارة الصحة

واجه مشروع مستشفيات الضمان مقاومة شديدة من وزارة الصحة في جميع المراحل. من أبرز الأمثلة إلغاء مهمة رسمية نظمتها هيئة الاستثمار قبل 3 سنوات لاختيار الكوادر الطبية المناسبة للمستشفيات. كانت المهمة تشمل سفر وفد من 15 استشاريًا كويتيًا إلى الهند لمقابلة 600 طبيب، بعد ثلاثة أشهر من التحضيرات المكثفة. لكن قبل يومين فقط من موعد السفر، أبلغهم أحد مسؤولي الوزارة بإلغاء المهمة، بحجة أن ذلك لا يحق للهيئة. ورغم اعتذار المسؤول لاحقًا بعد اكتشافه أن الاتفاقية بين الوزارة والهيئة تجيز هذا الانتداب، فإن الضرر كان قد وقع، مما أدى إلى تأخير كبير في المشروع.

ومن الأمثلة الأخرى رفض الوزير والوكيل الاجتماع مع هيئة الاستثمار والشريك الاستراتيجي، رغم الطلبات المتكررة لعقد الاجتماع لمناقشة التحديات التي تواجه المشروع. ولم يتم عقد الاجتماع إلا بأمر من السلطات العليا، ورغم ذلك لم يتم توقيع العقد الملحق أو التفاهم بشأنه، مما تسبب في تعطيلات إضافية. كما شهد المشروع عراقيل متعمدة فيما يخص التراخيص الطبية والإدارية، حيث استُخدمت كوسيلة لتأخير التنفيذ وإبطاء سير العمل. هذه العرقلة لم تكن مفاجئة، إذ إن تغيير النظام الصحي في الكويت يهدد مصالح شخصية لبعض المسؤولين والشركات الكبرى. وهو ما رأيناه عند تطبيق إصلاحات مشابهة في دول أخرى مثل المملكة العربية السعودية، حيث واجهت مقاومة مشابهة، إلا أن الإرادة السياسية هناك فرضت المصلحة العامة على المصالح الضيقة.

نقطة التحول

أخيرًا، شهد المشروع نقطة تحوّل حقيقية بفضل اجتماع النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية مع هيئة الاستثمار والشريك الاستراتيجي ووزارة الصحة. وأصدر النائب الأول تعليمات صارمة بحل جميع المشكلات المتعلقة بمستشفيات الضمان، ورغم أن هيئة الاستثمار والشريك الاستراتيجي كانا متفقين على معظم النقاط، فإن وزارة الصحة كانت متحفظة بشكل متوقع كما كانت طوال الفترة السابقة.

اليوم، وبعد هذه الجهود المتراكمة، نأمل أن تكون مستشفيات الضمان بداية حقيقية لإصلاح شامل للنظام الصحي في الكويت، وأن تتحقق الرؤية التي وضعناها منذ أكثر من عقدين من الزمن لمصلحة الكويت وشعبها. وهنا نأمل أن يكون لسمو رئيس الوزراء مجلس استشاري للصحة يضع الاستراتيجية العليا للصحة في البلاد، حتى لا تتأثر هذه الاستراتيجية بتبديل الوزراء أو تغير أفكارهم وقناعاتهم.

وللحديث بقية.

* وزير الصحة الأسبق

back to top