تُطرح الكثير من التساؤلات والفرضيات فيما يتعلق بالتطورات الأخيرة التي حدثت في سورية والتي بدأت في نهاية شهر نوفمبر من هذا العام وصولا إلى سقوط النظام الأسدي في 8/ 12/ 2024، كما تُقدم عدة مقترحات بخصوص ما المأمول أن يحدث مستقبلا، وكيف يمكن بناء دولة مدنية تعددية ذات مؤسسات دستورية تحكمها سيادة القانون، ولكن من دون أن ننسى ما حدث في الماضي الذي امتد على مدى العقود الأخيرة.
وجاء الحديث عن «العدالة الانتقالية» التي أراها ضرورية وأساسية ومهمة، لا أريد أن أدخل في التفاصيل العديدة لتعريف مفهوم «العدالة الانتقالية»، وسيكون من الأفضل العودة إلى مصدرين أساسيين لتعريف هذا المفهوم، الأول يعتمد على أحد إصدارات المفوضية السامية لحقوق الإنسان (جنيف)، وما يمكن أن نجده أيضا على موقعها الإلكتروني، حيث تم تعريف هذا المفهوم على أنه: «كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة»، كما تهدف هذه العدالة «إلى الاعتراف بضحايا تجاوزات الماضي على أنهم أصحاب حقوق، وتعزيز الثقة بين الأفراد في المجتمع الواحد، وثقة الأفراد في مؤسسات الدولة، وتدعيم احترام حقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون وبالتالي، تسعى العدالة الانتقالية إلى المساهمة في المصالحة ومنع الانتهاكات الجديدة»، أما المصدر الثاني فيقترحه المركز الدولي للعدالة الانتقالية (نيويورك): «تشير العدالة الانتقاليّة إلى كيفية استجابة المجتمعات لإرث الانتهاكات الجسيمة والصارخة لحقوق الإنسان، وهي تطرح بعضا من أشد الأسئلةِ صعوبةً إن في القانون أم السياسة أم العلوم الاجتماعيّة، وتجهد لحسمِ عدد لا يحصَى من الجدالات.
إن العدالة الانتقالية تُعنى، أولا، بالضحايا، قبل أي اعتبارٍ آخر»، ويتطرق التعريف إلى «الطرق التي تعالج بها البلدان الخارجة من فترات الصراع والقمع، انتهاكات حقوق الإنسان واسعة النطاق أو المنهجية التي تكون عديدة وخطيرة للغاية بحيث لا يتمكن نظام العدالة العادي من تقديم استجابة مناسبة»، ويمكن أن نشير إلى بعض هذه الطرق مثل: التدابير المستخدمة في الملاحقات الجنائية، ولجان الحقيقة، وبرامج التعويضات وإعادة الحقوق، والكشف عن المقابر الجماعية، والاعتذارات، والعفو... إلخ.
ونذكّر ببعض الأمثلة التي طبقت فيها العدالة الانتقالية بأساليب مختلفة وعلى مدى عدة سنوات في أميركا اللاتينية وإفريقيا والعالم العربي:
- غواتيمالا: تم إنشاء لجنة الحقيقة عام 1994، بقصد تقصّي الحقائق وإحقاق المُصالحة وكشف انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في أثناء الحرب الأهلية التي دامت زهاء ثلاثة عقود.
- جنوب إفريقيا: تم تشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة عام 1995 بهدف التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في سنوات الفصل العنصري، وسعيا لمنح العفو في مقابل الاعترافات المتعلقة بهذه الانتهاكات.
- المغرب: أُنشئت لجنة الإنصاف والمصالحة عام 2004 بقصد معالجة انتهاكات حقوق الإنسان التي عرفها هذا البلد العربي الإفريقي خلال السنوات الماضية، وبقصد معرفة الحقيقة، وتقديم التعويضات، وتحقيق الإصلاحات المؤسسة، وكانت أول سابقة تحدث في العالم العربي.
- تونس: تأسست هيئة الحقيقة والكرامة عام 2014، للنظر في انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في هذا البلد العربي منذ عام 1950.
وتوجد تجارب أخرى لتطبيق مختلف أشكال العدالة الانتقالية عرفتها دول مثل: الأرجنتين، وتيمور الشرقية، والبوسنة والهرسك.
تمثل العدالة الانتقالية بنظري حلا من بين حلول أخرى، ومخرجا قانونيا فعّالا ومفيدا لمراجعة شاملة لكل أنواع انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في عقود الحكم الأسدي لسورية والذي امتد لأكثر من نصف قرن، وهي ستسمح بكشف الحقائق والملابسات المتعلقة بهذه الانتهاكات، وتحديد المسؤولين عنها، والاستماع لاعترافاتهم بهدف محاكمتهم، ودفع تعويضات لضحايا هذه الانتهاكات، ويجب أن يتم ذلك بعيدا عن روح الانتقام والتشفي والإهانة، بل تبعا للأصول المعروفة والمطلوبة مع الاستفادة من تجارب الهيئات الأخرى وبخاصة في جنوب إفريقيا والمغرب.* أكاديمي وكاتب سوري مقيم بفرنسا.