الإرث الحضاري اللبناني بين مطرقة العدوان الإسرائيلي وسندان التقاعس

نشر في 06-01-2025
آخر تحديث 05-01-2025 | 18:47
 د. بلال عقل الصنديد

شمل العدوان الصهيوني على لبنان في استهدافاته الممنهجة والهمجية بعض المعالم الأثرية ذات الطابع الإنساني والتاريخي الفريد مما عرضها للتهديد والتدمير وطرح التساؤل حول صمت المجتمع الدولي عن تجاوز العدو الإسرائيلي لكل قواعد القانون الدولي الخاصة بحماية التراث الثقافي والحضاري، ولا سيما في قلعة بعلبك ومدينتي صور وصيدا، وغيرها من المعالم الدينية والمساجد التراثية.

أهمية الحفاظ على التراث العالمي

ترتكز فكرة حماية التراث العالمي والمواقع الأثرية على ضرورة صون الإرث الثقافي كعنصر أساسي للهوية الجماعية والتاريخ المشترك للإنسانية، فالمعالم التاريخية والأثرية ليست مجرد مبانٍ وأحجار صامتة، بل هي شهود على تطور الفكر البشري وقدرته على الإبداع والتطوير.

وفي هذا السياق، يُعد التراث العالمي ضمانة للسلام والتفاهم بين الشعوب، حيث تمثل المواقع التاريخية المشتركة جسورًا للتواصل بين الثقافات المختلفة، ومن هنا تأتي أهمية حماية هذه المعالم خاصة في المناطق التي تعاني نزاعات أو حروبا، حيث يكون التدمير المتعمد للأماكن الأثرية أسلوباً من أساليب العدوان غير المبرر، ويستهدف طمس هوية الشعوب وتقويض تاريخها.

وقد أظهر الواقع وبيّنت الدراسات المتخصصة أن تدمير المواقع الثقافية لا يؤثر على الحاضر فقط، بل يمتد ليشوه ويخفي حقائق تاريخية ويعرقل البحث العلمي، الأمر الذي من شأنه إضعاف روابط الشعوب بتاريخها وإرثها المشترك.

حماية التراث الثقافي في القانون الدولي

اتخذ القانون الدولي عدة إجراءات لحماية التراث الثقافي، أهمها اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح لعام 1954، والبروتوكولات اللاحقة لها، حيث تلتزم الدول الأطراف بمقتضى هذه النصوص بحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة، وعدم استخدام المواقع الثقافية كأهداف عسكرية، مما يوجب اتخاذ كل التدابير الممكنة لحمايتها من أي اعتداء.

علاوة على ذلك، تعتبر اتفاقية اليونسكو لعام 1972 بشأن حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي الإطار القانوني الأشمل الذي يسعى للحفاظ على المواقع المدرجة في قائمة التراث العالمي، وذلك من خلال تحميل الدول الأطراف مسؤولية ضمان حماية هذه المواقع من التهديدات، مع التأكيد على مسؤولية المجتمع الدولي تجاه التراث الثقافي، بما يشمل حث الدول على التعاون فيما بينها لضمان الحفاظ على المعالم التراثية من مخاطر التدمير والتلوث والإهمال.

تحديات حماية التراث الثقافي وسبل التفعيل

لا شك أن التطبيق العملي للتشريعات الدولية التي تنص على حماية التراث الثقافي، يواجه العديد من التحديات، ومن أبرزها غياب الآليات التنفيذية القوية التي تردع الاعتداءات، وعدم وجود تعاون دولي فعّال ومهتم بهذا الأمر في أوقات النزاع، فغالباً ما تتركز الجهود على الحماية النظرية دون تطبيق عملي وفاعل، مما يجعل المواقع التراثية عرضة للخطر المستمر، وهذا ما يفرض بقوة على المجتمع الدولي ضرورة الاستعجال في تبني إجراءات أكثر صرامة تجاه المعتدين، من خلال فرض عقوبات على الدول التي تنتهك القوانين الدولية المتعلقة بالتراث الثقافي وفي مقدمتها دولة الكيان الصهيوني، وتقديم الدعم الفني للدول المتضررة من النزاعات، وتشكيل لجان مشتركة تعنى بحماية التراث في المناطق المتضررة من النزاعات.

الخطوات اللازمة لحماية التراث الثقافي اللبناني

من هذه المنطلقات يعدّ التراث الثقافي في لبنان إرثاً عالمياً، ومسؤولية حمايته لا تقع على عاتق لبنان وحده بل يجب أن تكون واجباً دولياً، ولبنان في هذه الظروف هو بأمس الحاجة إلى دعم دولي فعلي لتنفيذ اتفاقيات الحماية ولترميم ما أفسده العدوان الصهيوني المتتالي والمستمر على آثاره ومعالمه الحضارية، وهذه مسؤولية إنسانية وأخلاقية على المجتمع الدولي احترامها وتفعيلها، مما يوجب على الدول والمؤسسات الدولية اتخاذ خطوات جادة لردع العدوان عن إرث إنساني عالمي ليبقى محفوظاً للأجيال القادمة.

وعلى الحكومة اللبنانية اتخاذ مجموعة من الخطوات بالتعاون مع المجتمع الدولي والدول المؤثرة، تحت العنوانين التاليين:

1. طلب الحماية ومقاضاة العدوان:

من المفترض أن تسمح أدوات القانون الدولي للبنان بكثير من أطر التحرك التي من شأنها بشكل عاجل الحد من الاعتداءات التي تطول المعالم الحضارية اللبنانية ومن ثم المضي باجراءات مقاضاة العدو الإسرائيلي من خلال ما يلي:

- التوجه إلى منظمة اليونسكو لطلب تدخلها المباشر لحماية المواقع الأثرية المدرجة على قائمة التراث العالمي، بما يشمل طلب إرسال فرق ميدانية للتحقيق في الأضرار وتقديم تقارير رسمية تدين العدوان، وكذلك وضع المواقع الأثرية اللبنانية تحت حماية دولية مؤقتة، بما يضمن وجود مراقبين دوليين يمكنهم توثيق أي اعتداء عليها.

- تقديم شكاوى رسمية إلى مجلس الأمن الدولي ضد إسرائيل بسبب استهدافها المواقع الأثرية والثقافية في لبنان، استناداً إلى اتفاقيات جنيف واتفاقية لاهاي لعام 1954 بشأن حماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح.

- رفع دعاوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية لخرقها اتفاقيات حماية التراث الثقافي واستهدافها المباشر للمواقع الأثرية، ويتطلب ذلك توثيق جميع الأضرار وإعداد ملف قانوني قوي يستند إلى الأدلة والشهادات، مع إطلاق برامج توثيق للمواقع الأثرية اللبنانية، تشمل تصويرا ثلاثي الأبعاد وتسجيل البيانات الدقيقة، بما سيساهم في توثيق حجم الضرر ويكون مرجعاً قانونياً للمطالبة بالتعويضات.

- طلب تدخل المحكمة الجنائية الدولية باعتبار الهجمات على الآثار والتراث الثقافي بمنزلة جرائم حرب، وفقاً لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

2. تفعيل الدورين الدبلوماسي والإعلامي:

يمكن للحكومة اللبنانية أن تتعاون مع الدول المؤثرة من الأشقاء والأصدقاء ممن له تاريخ طويل في حماية التراث الثقافي، للضغط على إسرائيل في المحافل الدولية لوقف أي استهداف للمواقع الأثرية في لبنان، ومن الضروري في السياق تنظيم حملات دبلوماسية وثقافية- رسمية وشعبية- على مستوى العالم للفت النظر الى الاعتداءات الإسرائيلية على التراث اللبناني، وإبراز أهمية حماية هذا الإرث الذي يمثل مفخرة للإنسانية وجزءاً من الهوية الثقافية للمنطقة.

وبعد أن هدأت وتيرة الاعتداءات المسلّحة من المهم تنظيم مؤتمرات ومعارض دولية بالتعاون مع متاحف عالمية ومؤسسات ثقافية مرموقة لعرض الأضرار التي لحقت بالآثار اللبنانية، مما يعزز الدعم الدولي لحمايتها.

ومن المفيد في هذا الإطار أيضاً، أن يقوم كل لبناني- مسؤول أو مواطن- باستغلال صداقاته المنتشرة في أصقاع الأرض لتوجيه رسائل عبر وسائل الإعلام المؤثرة للتأكيد على أهمية حماية التراث الثقافي كجزء من الالتزام الإنساني والدولي، والضغط على الحكومات- لا سيما الغربية- لاتخاذ مواقف صارمة تجاه الهجمات التي تتعرض لها الآثار والمعالم اللبنانية.

* كاتب ومستشار قانوني

back to top