وجهة نظر: الاقتصاد الريعي... الأسباب والتبعات
الاقتصاد الريعي هو ذلك الذي تتجه فيه أنشطة وطاقات المواطنين إلى التأثير على قرارات الدولة للاستحواذ على حصص من الثروة الوطنية بدلاً من العمل لإنتاج قيمة اقتصادية حقيقية ومثمرة. في مثل هذه المنظومة تنصب الجهود على الاستفادة غير المستحقة من أوجه الإنفاق الحكومي من رواتب وخدمات ومساعدات اجتماعية ومناقصات، أو من تجيير التشريعات والقوانين لخدمة المصالح الفردية والفئوية. قد لا يوجد في عالم اليوم مجتمع مثالي يخلو من الأنشطة الريعية، ولكن ما يميز الاقتصاديات الريعية هو الحضور البارز لهذه الأنشطة وأهميتها كشرط أساسي للنجاح والارتقاء. وفقًا لهذا التعريف، فإن ظاهرة الاقتصاد الريعي تتطلب ثلاثة شروط:
1) هيمنة الدولة على النشاط الاقتصادي وضمور القطاع الخاص يعني تملكها للأنشطة الرئيسية التي تساهم في التوظيف والإنتاج، مثل قطاعات الطاقة والخدمات الاجتماعية، أو وضعها قوانين وقواعد معقدة لدخول وممارسة العمل الحر. في كلا الحالتين، فإن التوسع في هيمنة الدولة، وفي ظل أسلوب اتخاذ القرار الحكومي الذي يكون عادة ذا طابع تقديري، يساهم في خلق فرص متزايدة لتمكين الاستحواذ على الموارد. وعلى النقيض، نجد أن القطاع الخاص، وفي ظل ظروف الاقتصاد الحر والمنافسة، تتلاشى فيه مثل هذه الفرص، حيث ترتبط قرارات الإنفاق بمعايير الكفاءة والربحية، وحيث يتطلب البقاء المحافظة على الإنتاجية والابتكار وتلبية احتياجات المستهلكين.
2) وجود ثروة وطنية ناضبة بحسب التعريف الدارج، يعتبر الاقتصاد الريعي غير قابل للاستدامة، حيث تُحول الموارد والطاقات بعيدا عن الأنشطة المنتجة إلى تأمين الريع. ومن هنا فإن استمرار الاقتصاد الريعي يتطلب وجود مصدر دخل ثانوي لتمويل إنفاق الحكومة. في معظم هذه الأحوال يستمد الإنفاق من تسييل ثروات البلاد من الموارد الطبيعية الناضبة، مثل النفط والمعادن. وفي أحوال أخرى يتم تمويل الإنفاق من خلال تسييل الاحتياطيات والأرصدة المالية التي جمعتها الحكومات السابقة، أو من التحويلات الخارجية من دول أخرى.
3) وجود البيئة الحاضنة هناك صلة وثيقة بين الأنشطة الريعية وممارسات الفساد الإداري والمالي، حيث يمثل كلاهما آليات لاستنزاف الموارد العامة وتحويلها إلى مكاسب خاصة.
لكن خلافا لمفهوم الفساد الذي ينطوي على انتهاكات قانونية، فإن الأنشطة الريعية في الغالب تمارس كجزء من النظام القائم.
في هذه الأحوال يلعب النظام السياسي والإداري للدولة دورا مباشرا في تفشي الأنشطة الريعية.
ففي الدول الناشئة تتجلى مظاهر ضعف الأنظمة الإدارية والحوكمة والمؤسسات الفاعلة في غياب الرقابة والشفافية وعدم وضوح القوانين، مما يعزز السلطة التقديرية للمسؤولين وبالتالي يخلق بيئة خصبة للأنشطة الريعية.
وفي حالات أخرى، ترتبط الأنشطة الريعية مباشرة بسلوكيات النظام السياسي، حيث تستخدم السلطة المال العام لمنح العطايا والامتيازات لشراء الولاءات السياسية، مما يضفي شرعية على هذه الممارسات ويساهم في نشر أشكال الاستهداف الريعي، مثل الواسطة والمحاباة واستغلال النفوذ السياسي والإداري.
كما أشرنا سابقا، تعاني الاقتصاديات الريعية من سوء تخصيص الموارد وضعف قدرتها الإنتاجية، وضمور القطاع الخاص وغياب المنافسة فيه.
لهذه الأسباب من المرجح أن تكون فترات الرخاء التي تشهدها هذه الاقتصاديات آنية وغير مستدامة، حيث تستنزف الموارد والثروات الطبيعية لتحقيق مكاسب قصيرة الأجل ولفئة قليلة على حساب النمو طويل الأجل.
وإضافة إلى حتمية أفول الاقتصاديات الريعية وعودتها إلى سابق مستويات المعيشة والدخل، فإن مسار الهبوط قد لا يكون خاليا من حدوث اضطرابات تهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي.
فالأنظمة الريعية التي تقوم على المحاباة والعلاقات مع النخب المفضلة من قبل السلطة، تعني ضمنا تهميش شرائح واسعة من المجتمع وانتشار مشاعر الإحباط والتذمر.
ومع تفاقم الأوضاع الاقتصادية، تصبح هذه المشاعر أكثر حدة وعدائية، لا سيما بين الفئات الأقل حظاً.
هذا التوجه يكون الأكثر وضوحا في المجتمعات الريعية القائمة على الأسس العشائرية والولاءات التقليدية (مقارنة بتلك القائمة على الانتماء السياسي أو المناطقي)، حيث تتصدع بمرور الوقت بنية المجتمع الداخلية نتيجة للانقسامات العرقية والتحالفات الجانبية سعيا لضمان حصص في الثروة والنفوذ.
ويجب التنويه أخيرا إلى أن ظهور الثروة النفطية في بلاد ما لا يعني حتمية التحول نحو الاقتصاد الريعي.
فهناك أمثلة كثيرة على دول امتلكت ثروات طبيعية من النفط أو المعادن ولكن لم تنزلق نحو مسار الريعية (مثل النرويج وماليزيا).
تلك الدول تجنبت هذا المنزلق بالتركيز على توجيه عائدات ثرواتها الطبيعية إلى تعزيز الاستثمار في البنية التحتية وفي القدرات البشرية بدلا من هدرها في مصروفات استهلاكية، كما عمدت إلى خلق بيئة قانونية وإدارية وسياسية ملائمة لنمو اقتصاد منتج يتسم بالشفافية والوضوح، ويحد من الصلاحيات الواسعة للقائمين على إدارة أمور البلاد.