رغم وضوح النص في المادة (62) من الدستور اللبناني ومفادها أنه «في حال خلو سدة الرئاسة لأيّ علة كانت، تُناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً بمجلس الوزراء»، يدور جدل قانوني وسياسي حول مدى صحة الانعقاد الأخير للحكومة المستقيلة باجتماع تحكمت في تحديد حجم وبنود جدول أعماله حرارة المواقف والأهواء السياسية.
فرغم انتفاء أي سند دستوري يمنع الحكومة من الاجتماع ضمن إطار تصريف الأعمال، ورغم عدم وجود أي اشتراط دستوري على انعقادها «مجتمعة» لممارسة الصلاحيات المنوطة بها عند الشغور الرئاسي، ورغم ما ساقته السوابق- التي لا ترقى إلى أن تصبح عرفاً لعدم صوابيتها دستورياً- من توقيع جماعي للوزراء على المراسيم التي قد تخرج عن الحكومة في مثل هذه الحالات، ليس من السهل تبرير أو قبول تذييل المراسيم الناتجة عن الجلسة الأخيرة بتوقيعين لرئيس الحكومة: واحد بصفته وآخر عن رئيس الجمهورية، ولكن ذلك من الجانب السياسي يجد صداه بالقبول أو الرفض تبعاً لترددات الانقسام السياسي-المذهبي الذي يتحكم فيه قانون الفعل وردة الفعل في إطار الصراع على السلطة، وفي حين لم يفلح كل ذلك بملء الشغور الرئاسي ولا بالمحافظة على كرامة المواطن ولا بتمتين أواصر الكيان، ولا ساهم بلا شك في إخراج المجتمع اللبناني من أزماته الكبرى على الصعد كافة. في الواقع، إن الدائرة المفرغة التي تحيط بمصير اللبنانيين لا تعدو أن تكون مسار لعبة قديمة-جديدة سمتها الحقيقية تلطّي أصحاب المصالح الشخصية والفئوية خلف شعارات شعبوية تنجح عادة في تحويل المنازعات الصغرى الى انشقاقات فئوية خطيرة أو حروب دموية كبرى. فللوصول الى مرادها اتبعت الزعامات والقوى اللبنانية أسلوباً تقليدياً خبيثاً تتفنن من خلاله في إدخال مناصريها بما قد يسمى «رهاب الطوائف الأخرى» وهي دوامة مَرَضِيّة تعانيها كل شرائح المجتمع اللبناني من خلال سياسة «التخويف من الآخر»، الأمر الذي ينتهي- كما تكشف السوابق- بتسويات سياسية على حساب مصالح الناس وتضحيات الصادقين والتزام العقائديين. ضمن إطار الاعتراض ال «عوني-القواتي» على اجتماع مجلس الوزراء الأخير، صوّب الوزير جبران باسيل بشكل مباشر على حزب الله وأمينه العام وعلى «تفاهم مار مخايل» ضمناً، الأمر الذي تناوله بحنكة واضحة - إصراراً وتراجعاً في الوقت نفسه- في حديث تلفزيوني قد يبدو أنه مرتب لغايات محددة، متبعاً ذلك بتغريدات يمدح فيها- بلغة التراجع التكتيكي والاعتذار الممنهج- شخص الأمين العام لحزب الله.
لقد أثبت الوزير الطامح أنه أذكى وأسرع من تعلّم وطبق الأسلوب التقليدي للسياسة اللبنانية، فهو- كمن سبقه ويعاصره من القيادات- يتقن استخدام الشعارات الجاذبة وتسويقها بشكل محترف، كما يجيد تقمص دور الضحية التي من المبرر لها شَهْر أظافرها في وجه حاشريها في الزاوية، وهو الذي يعرف أين ومتى يرفع أو يخفض سقف مواقفه، وكيف يستفيد من إصراره عليها أو تراجعه عنها، وهو الذي رغم عدم استعداده المطلق للتخلي عن تحالفه الاستراتيجي مع حزب الله، لا يتوانى عن إسماع صوته من خلال خطابات الهجوم وتغريدات الدفاع وخطط التراجع التكتيكي الممهور بختم التهديد والوعيد الضمنيين. ولعل هذا النهج الذي يفسر أصداء- وربما مقاصد- تسريبات «البلطجة» التي اتهم بها الوزير باسيل رئيس مجلس النواب نبيه برّي، وكذلك الحال في شأن نشر بعض أسرار اللقاءات السياسية للرئيس السابق ميشال عون في القصر الجمهوري، دون أن ننسى تسريبات لقاء رئيس التيار الوطني الحر مع أنصاره في العاصمة الفرنسية التي أراد أن يثبت لها ومنها مدى صلابته في مواجهة الضغوط المحلية والخارجية مقابل التقليل من حجم وأهمية الوزير سليمان فرنجية كمرشح رئاسي تدور حول اسمه دائرة المفاوضات ومحاولة التسوية بين حزب الله ومواقع اتخاذ القرار محلياً وإقليمياً ودولياً من باريس إلى واشنطن مروراً بدوحة قطر.
المعركة الرئاسية في لبنان ما هي إلا حلقة رديئة من مسلسل الانهيار القيمي والكياني الذي تعرض حلقاته تباعاً وتكراراً على شعب منهك وضعيف، مع ما يبدو معه أنه لن يشهد في القريب العاجل كلمة «النهاية» عقب المشهد الختامي. فقد أفلح سياسيو لبنان في أكثر من مرة بتحويل المعركة الرئاسية الى معارك فرعية خطيرة بين المذاهب والطوائف من خلال تأجيج الصراع على «حقوق» يتم تسويقها على أنها دستورية ووجودية وهي في واقع الأمر واهية ووهمية!
وقد آن الأوان أن تستبدل المعركة الرئاسية بمعركة رئيسة هدفها التصدّي لتحالف الطائفيين مع أصحاب المصالح، وعنوانها سحق نرجسية القيادة المتحكمة بتبعية جاهلة ومجّهلة.
* كاتب ومستشار قانوني.