رسوم التقاضي بين رمزية القيمة وجدية الدعوى
التوجه الحكومي لزيادتها وكفالات الطعون قد يعوق حق التقاضي
في وقت تتجه الحكومة لإقرار مشروع بقانون لتعديل قانون المرافعات المدنية والتجارية يضمن زيادة الرسوم والكفالات المقررة للطعن على الأحكام القضائية، مما قد يسهم في تعويق حق التقاضي، يثور التساؤل حول إقرار التعديل التشريعي ذاته للآليات والأدوات القانونية التي تدعم الوسائل البديلة لحق التقاضي كوسائل التوفيق والتسوية والوساطة القضائية.
ومادامت التعديلات على الرسوم قد ربطت بقضية جدية التقاضي، فإن ذلك الأمر يستدعي النظر إلى حجم الزيادات المتوقعة على الرسوم والكفالات المقررة للطعون وفق حقوق التقاضي وقدرة رافعي الدعاوى على استيفاء تلك الرسوم، بما لا يعطّل الحق في التقاضي المقرر دستورياً بموجب المادة 166.
وإذ كان التقاضي أمام المحاكم مقرراً بدرجتي تقاضٍ، فإن المنطق هو عدم تعويق هذا الطريق الذي يتعيّن إتاحته للكافة لاقتضاء حقوقها دون تقييد غير مبرر.
ورفع الدعاوى أمام محاكم أول درجة يستلزم رسوماً يتعين تقديرها بما يضمن جدية التقاضي من قبل المتقاضي نفسه عند اللجوء إلى القضاء لرفع الدعاوى والمطالبات أو ممارسة حقه، وبين ما يمثله الرسم المقرر على نحو عادل بالحد الأدنى لممارسة حق التقاضي، دون أن يكون الضابط لهذا التقدير هو حصر قيمة الخدمات التي يقدمها مرفق العدالة للمتقاضين لخدمة تلك الدعوى، وإنما يكون رسماً رمزياً، لكن في الوقت ذاته يكون معبّراً عن جدية التقاضي، وغير معوّق لحق التقاضي بما يجعله بالكاد متاحاً، وهو ما يستدعي التوازن في تقييم الرسوم، وليس على إعمال مبدأ التساوي لتقييم حجم الخدمة مع حجم الرسم المقرر.
كما أن الحق في التقاضي من الحقوق اللصيقة بالإنسان والتي كفلتها كل المبادئ والمواثيق الدولية واتفاقيات العهد الدولي التي انضمت لها الكويت، فضلاً عن الدساتير، ومنها الدستور الكويتي الذي أولى هذ الحق أهمية قصوى عندما كفل حق التقاضي وأفرد للمشرع العادي الحق في تنظيمه.
قصر الطعون للمبالغ التي تزيد على 30 ألف يفرغ دور محكمة التمييز
ولذلك، فإن المشرّع محاط بضوابط لتنظيم هذا الحق، وإن من شأن تلك الضوابط المقررة لممارسته ألا تكون حائلاً أو مانعاً من ممارسته، وهو ما قد يصمها بعدم الدستورية، إذا ما تسببت في تعطيل أي من الحقوق التي كفلها الدستور.
ومن بين ذلك التنظيم التشريعي الذي قد ينسحب إلى تنظيم حق التقاضي ألا يكون معوقاً أو حائلاً لممارسته، وإلا لازمته شبهة عدم الدستورية، وهو ما يتعين معه النظر عند إقرار قيمة الرسوم القضائية للطلبات أو الكفالات، بألا يكون الطريق نحو تنظيمها قائماً على فكرة التساوي لمقدار ما يسدده المتقاضي للحصول على خدمة حق التقاضي، مع ما يدفعه لتلك القيمة، وإنما يتعين العمل على إقرار رسوم رمزية تضمن عدم إرهاق جيب المتقاضي، وألا تكون سبباً نحو تعويق حقه لدى ممارسته حق التقاضي، وبذات الوقت تضمن تلك القيمة الرمزية جدية التقاضي التي يراد تحقيقها من الزيادة.
وعليه، فإن تنظيم حق التقاضي يشمل تنظيم جميع الإجراءات المقررة لممارسته كالإجراءات الإدارية لرفع الدعاوى، التي منها سداد الرسوم المقررة للدولة لرفع الدعاوى والمطالبات، والتي من دون رفعها لا يمكن ممارسة ذلك الحق، ولذلك فإن المطالبة بتحقيق التوازن عند تقدير قيمة الرسوم والكفالات المقررة لممارسته ذلك الحق حتى لا ينعت التعديل المتوقع بعدم الدستورية لمصادرته حق التقاضي الذي كفله الدستور وفق المادة 166 منه.
كما أن تقدير قيمة الرسوم المقررة لرفع الدعاوى والمطالبات والكفالات يجب ألا تكون محلاً للمبالغة أو القيد الذي يتسبب في تراجع المتقاضين من آحاد الناس عن ممارسة حق التقاضي.
أما الأمر الأخير الذي شملته التعديلات، الذي يستهدف تقييد حق التقاضي بطرق غير عادية أمام محكمة التمييز فيربط الوصول الى المحكمة بالمطالبات التي تزيد قيمتها على 30 ألف دينار. ومثل هذا التقييد من شأنه أن يهدر حق التقاضي للمطالبات التي تقل قيمتها عن هذا المبلغ بما يجعلها نهائية، على الرغم مما قد يشوبها من خطأ في تطبيق القانون أو فساد في الاستدلال بالنتائج التي توصلت إليها.
ومحكمة التمييز اليوم تصدر نحو 8 آلاف طعن قضائي، ما يزيد على 50 بالمئة منها يتم تمييز الأحكام القضائية من قبل محكمة التمييز بسبب ما اعترى تلك الأحكام من أخطاء ومثالب كبيرة استدعت من أعلى جهة قضائية أن تتدخل لتصحيح هذا الاعوجاج، ورفع الظلم الذي أصاب أطراف هذا النزاع وإعادة الأمور إلى نصابها.
وتقليل عدد الطعون التي تصل إلى محكمة التمييز هو إقرار بوجود أحكام خاطئة، لكن السبيل في عدم وصولها إلى محكمة التمييز وقف على أساس قيمي، وهو خطأ وقع به المشرع عندما قرر النصاب القيمي للمطالبات.
وعليه، فإن التقيد بالحالات الخاصة بالطعن في التمييز أمام المحكمة من دون نصاب، وبعد رفع قيمة كفالات الطعن بالتمييز سوف يتسبب في ضبط الطعون أمام محكمة التمييز التي تعاني تراكماً كبيراً، ولسنا بحاجة إلى تفريغ محكمة التمييز من كل المطالبات ونلغي وظيفتها، بذريعة قضية إدارية، كالتراكم، بالإمكان حلها دون إهدار حق كالطعن على الأحكام أمام محكمة التمييز.
الوسائل البديلة للتقاضي
الجانب الآخر الذي يتعين أن يشمله التعديل، هو إقرار الوسائل البديلة للتقاضي، بعد ما كشف الواقع العملي اليوم عدم نجاح طريق التحكيم الحر كآلية بديلة عن القضاء.
والسبب في عدم نجاح مثل تلك الآليات المعوقات التي يواجهها التحكيم الحر لدى المحاكم، مما تسبب في بطلان تلك الأحكام أو صعوبة التصديق عليها من قبل المحاكم قبل تنفيذها، فضلاً عن معوقات في آليات تنفيذها ضد المحكوم عليهم.
ونظراً لحاجة المتقاضين والأفراد إلى إيجاد طرق توصلهم لتحقيق مطالبهم من دون اللجوء الى طريق القضاء بات لزاماً وانسجاماً مع التوجه الحديث الذي تأخرنا عن تحقيقه إقرار وسائل التسوية والتوفيق والوساطة القضائية، وذلك بأن يتم تنظيم عملها، وأن يسند الاختصاص لدى ممارستها إما للأجهزة القانونية في الدولة ممثلة بوزارة العدل، بعد ندب أحد من السادة القضاة لتولي إدارتها، أو يصرح لمكاتب المحاماة بممارستها كأساليب وفق نظم وإجراءات منظمة وفق التشريع المطروح.