أصول وخصوم
مع نهاية حكم الأسد، تُطوى صفحة حزب البعث العربي الذي وُلِدَ عام 1947م وحَكَمَ 1963م، ليجثم على العراق وسورية 40 و61 عاماً على التوالي بشعارات الوحدة والحرية والاشتراكية، لم تكن حصيلة «الوحدة» سوى المزيد من التفكيك والتقسيم، أما بشأن «الحرية» فهي أضحوكة، كانت «الاشتراكية» هي الشيء الوحيد الذي اشترك فيه هذان النظامان بجرائم سريالية لا يصدقها العقل قتلاً وسحلاً وسحقاً بأساليب شيطانية عابرة للحدود والقارات تنوعت بين الاغتيالات الفردية، مثل سم الخاتم والمسدس الكاتم وغيرهما، وبين تصفيات الجملة بالحروب والتفجير والتفخيخ والقصف والكيماوي والبراميل المتفجرة بمجازر فتكت بشعوبهم لا بأعدائهم، كما كان الأقربون أولى بالمعروف السنماري الذي طال مؤسسي ومفكري وقيادات وكوادر «البعث»، الذي عَبَثَ بالقدرات والمقدرات، مع التذكير بلعنة مشتركة أخرى سعى من خلالها رؤساء الجمهوريات العربية لتوريث الحكم لأبنائهم المدللين، كثيرة هي اللعنات، شيلمهن؟!
لنستفيد من الدرس، وعلى نهج المحاسبة المالية نتساءَل، من البديهيات أن تنظر الدول المتفوقة لمواطنيها على أنهم Assets في بناء الوطن وتنميته وازدهاره، كيف انقلبت الحال لدى أنظمتنا، ليصبح المواطنون Liabilities عليهم؟ مع تحفّظي عن الترجمة العربية لهذين المصطلحين في المحاسبة «أصول وخصوم»، الذين لا يعبّران عن مضمونهما بدقة كما هي الحال في الإنكليزية، إلّا أنهما في سياقنا السياسي شديدا الدقة، فهذه الأنظمة لم تراعِ «الأصول» في التعامل مع شعوبها التي لا تراها سوى «خصوم» لها وعبء عليها، أحد التحليلات المؤامراتية يزعم أن حماقة الاحتلال العراقي للكويت كانت سعياً لتخفيف أعباء الجيش الذي وصل عدده عام 1990م إلى 1.4 مليون جندي عاطل وجائع، صحّت أو شطحت تلك التحليلات، فهي تجسّد واقع خلل هائل في تركيبة دول العسكرتاريا التي عجزت عن مواجهة تحديات الدولة المدنية ومواكبة النماذج الحضارية في العالم لتركن إلى محاربة نفسها من حيث لا تَعلم بشعارات البيان الأول، وليخسأ الخاسئون.
من نوادر تلك الأنظمة ملاحقتها لمواطنيها بحسب «أصولهم» بسلسلة قرارات وسياسات فكّكت وشرّدت وأهدرت بلا حساب، هل يصدق عاقل أن عراق عام 1981 ومع كل تحدياته الاقتصادية قام برصد مكافأة تصل إلى 4.000 دينار الموازية لـ 23.000 دولار اليوم(1) للعراقي الذي يطلّق زوجته العراقية من أصول إيرانية مع تسفيرها خارج الدولة بموجب القرار القراقوشي رقم 474 الصادر من مجلس قيادة الثورة؟! هذا مثال صغير يمكن القياس عليه عن تبديد المقدرات، أما عن القدرات فتكفي الإشارة إلى هروب ملايين الكفاءات بشتى المجالات من وطنهم إلى أرض الله الواسعة طوعاً وقسراً، ليصبحوا اليوم هم وأبناؤهم وأحفادهم مواطنين أميركيين وبريطانيين وإسكندنافيين لم تبق لهم من ذكرى وطنهم القديم سوى ترنيمة شجن: هذا مو إنصاف منك، لا ولا منك «أصول»!
(1) في عام 1981 كان الدينار العراقي يوازي 1.5 دولار، مع موازاة قيمة الدولار الشرائية عام 1981 لـ 3.8 دولارات اليوم.