بيروقراطية مزمنة!
كلما توجهت إلى دائرة حكومية لإنجاز معاملة أعود مذهولةً من حالة الجمود التي تسيطر على تلك الجهات، وكأن الزمن توقف عند تسعينيات القرن الماضي، ومعه توقفت العقول عن التطور، لتغرق في دوامة من البيروقراطية التي تعكس اعتلالًا فكريًا مخيفًا.
قبل أيام وجدت نفسي داخل إحدى الدوائر الحكومية في منطقة الشويخ الصناعية، كل شيء بدا مألوفًا: موظف استقبال مكشر، وكراسي انتظار مرصوصة، وأرقام تنادي أصحابها ببرود آلي، كنت أجلس بين مراجعين بدت على ملامحهم علامات الضجر، وكأنهم مجبرون على خوض هذا «الاختبار البيروقراطي»، أما أنا فكنت أراقب المشهد حولي: مكاتب مهملة، سجاد متسخ ببقع القهوة، وحركة بطيئة لا تعكس أي دافع لإنجاز المهام.
حين جاء دوري استقبلتني الموظفة بنظرات باهتة، وتصفحت أوراقي بروتينية خانقة، شعرت للحظة بأنني في اختبار دون دليل إرشادي: هل أقف؟ أجلس؟ أنتظر؟ ثم سألتني: «هل أنتِ موظفة؟»، فأجبت بالإيجاب، لتأتي صدمتي الأولى: «أين كرنيه الدوام؟»، وكأن بيانات الدولة الرقمية أصبحت رهن بطاقة الرقبة تلك، فبدلاً من أن تستخدم الربط الإلكتروني لاستخراج بياناتي، طُلِب مني إثبات ما هو مثبت بالفعل!
بحثت الموظفة عن حل آخر، وكأنها اكتشفت للتو «عبقرية التطبيق الإلكتروني»، وطلبت مني الدخول إلى تطبيق «سهل» لإصدار شهادة إثبات، كنت في داخلي أشكر الله أنها أخيرًا وجدت طريقة «بدائية» للإثبات، رغم أنها ليست مسؤوليتي كمراجع أن أوفر هذه المعلومات التي يفترض أن تكون في متناول تلك الإدارة الحكومية «بالذات»، وبعد معاينتها للشهادة في هاتفي المحمول، جاءت الصدمة الأكبر: «اذهبي إلى جمعية الخالدية واطبعي الورقة ثم عودي».
عفوًا؟!
لم أستوعب هذا الطلب السريالي: لماذا يجب عليّ أن أترك المكان، وأقطع مسافة تزيد على عشر دقائق وسط زحام الطرق فقط لطباعة ورقة في منطقة اخرى؟ هل يُعقل أن مركزًا حكوميًا يُفترض أنه «ذكي» كما هو مكتوب في واجهة المبنى الخارجية، لا يوفر طابعة؟ حاولت التثبت من صحة ما سمعت، لكن جميعهم أكدوا أن هذا هو الإجراء الطبيعي، بل إن المراجعين يذهبون فعليًا وكأنهم «مكنات بلا وعي» مورِسّ عليهم الغباء فاعتادوه.
وأمام هذا الواقع العبثي اضطررت لطلب المساعدة، رافضة أن أكون منجرفة وراء هذا الإجراء الرجعي! وبفضل أحد الموظفين عند المدخل، تم استخراج الورقة خلال أقل من دقيقة، نعم، أقل من دقيقة! ودهشتي لم تتوقف عند هذا الحد، بل تفاقمت عندما طلبوا مني الذهاب إلى إدارة أخرى تابعة لهم في «المطار» الذي يبعد 31 دقيقة لدفع رسوم، أين الذكاء هنا؟ أين الربط الإلكتروني بالله عليكم؟ وعندما وصلت المطار بعد عناء وجدت موظفًا غير مبالٍ يجلس خلف نافذته ممسكًا بهاتفه، وغير مكترث بوقوفك أصلا، أكملت المعاملة وسط برود يثير الأعصاب.
عدت إلى الدائرة الحكومية لإتمام الإجراءات، وكان الوقت يشير إلى 1:17 ظهرًا، أي قبل انتهاء الدوام الرسمي بـ13 دقيقة، كان الموظفون يهمّون بجمع أغراضهم، وكأنه انتهاء يوم دراسي قي مدرسة إعدادية، استطعت إقناع إحداهن بإتمام معاملتي التي أخذت ساعتين ونصف بالضبط!
وخرجت وأنا أتساءل: كيف يمكن أن نجد أنفسنا في عام 2024، ولا تزال العقول والممارسات الإدارية عالقة في حقبة التسعينيات؟ لماذا لا تزال المؤسسات الحكومية تعمل بعقلية متحجرة، غير قادرة على استيعاب التقدم التكنولوجي؟ كيف لنا أن نتحدث عن «حكومة إلكترونية» في حين أبسط الخدمات تتطلب جهدًا غير منطقي؟
وددتُ أن أصرخ صرخة في وجه الجمود الإداري الذي أصبح عبئًا على المواطن والمقيم، فنحن بحاجة إلى إعادة التفكير في آليات العمل لتبسيط الإجراءات، وتفعيل التكنولوجيا التي تُنفق عليها الحكومة المليارات دون أثر يذكر، كفى عبثًا ورجعية، وكفى تخلفًا أرجوكم... فشلتونا.