القراءة والاختمار
تمر الأفكار حين ورودها على ذهن القارئ بمراحل متعددة، تبدأ بالمطالعة والقراءة وتنتهي باستيعاب المكتوب بنسبة ما، لكن حتى تتحقق الاستفادة الكاملة منها يجب أن يمر وقت كاف عليها حتى تختمر في ذهنه وتنضج.
واختمار الفكرة (أو تخمرها)، الذي يعني في المعاجم العربية، كلسان العرب والقاموس المحيط، «اكتمالها ونضجها»، يحتاج إلى عوامل مساعدة، منها الاستعداد الشخصي للقارئ، والظروف المحيطة به، وكذلك المواد المقروءة سابقًا، والتي تشكل أرضية يبنى عليها ورافدًا مهمًّا يدعم ذلك.
ولأن الأفكار أمور مجردة فإن مشاهدتها والتعرف عليها ومستوى تقدمها أو تأخرها عند شخص يشكل معضلة للمفكرين وصناع الأفكار، فكيف يمكن قياس مدى ونسبة الاستفادة من كتاب بعد قراءته؟ يبدو أن ذلك صعب جدًّا، وإن حصل كما يحصل في الاختبارات التي تُجرى في المراحل الدراسية للطلاب وغيرهم فإنه قد لا يكون مؤشرًا دقيقًا على استيعاب الفكرة، حين لا تكون أسئلة الاختبار دقيقة أو متقنة، أو إذا كانت لا تشمل جوانب يفترض أنها مهمة في حين ركزت على جوانب لا يفترض أنها كذلك.
قد يقرأ شخص كتابًا ولا يستفيد منه شيئًا، وقد يقرأ الكتاب نفسه شخصٌ آخر فيشكل انعطافة مهمة في حياته لأنه يشبهه ويلامس نقطة محورية في حياته، أو يحل إشكالية لديه ليست موجودة عند آخر، والسر الآخر في ذلك هو خلفية كل منهم، وتعاضد بعض أفكار الكتاب مع أفكار أخرى مرت على القارئ إما من كتب أخرى أو حتى من حياته العامة واحتكاكه بالناس، وربما تأتي بعض الأفكار من اللاوعي من معلومات ظلت مكتنزة في الدماغ مدة طويلة أو قصيرة حتى خرجت لنا بالطريقة التي نراها، وهو ذاته ما قاله عالم النفس البريطاني غراهام والاس (1858-1932) حين تحدث عن المسار الذي تمر به الفكرة وحصرها في أربع مراحل هي: الإعداد، والكمون والاختمار، والإشراق والوميض، وأخيرًا التحقق، حين يربط ذلك بحصول تحليل ومقارنة بين المعلومات ليستطيع أن يثبت بعضها ويفند أخرى.
• «من الضروري أن ندع الزمن يقوم بعملية التخمير الرائعة قبل أن يكون باستطاعتنا أن نتكلم عما قرأنا». (دانيال بناك) مؤلف كتاب «متعة القراءة».