كيف يمكن أن تستفيد غرينلاند من رغبة ترامب في ضمها؟
أدى هوس دونالد ترامب بغرينلاند إلى أن يضع أكبر جزيرة بالعالم في مكانة قوية غير متوقعة، وفي حين قوبل عرض ترامب عام 2019 لشراء الإقليم الواقع في القطب الشمالي بالسخرية، واعتبر مجرد مزحة، فإن توقيت عرض الرئيس المنتخب يبدو أفضل هذه المرة، وسط مساعٍ حثيثة من جانب سكان غرينلاند من أجل الاستقلال عن الدنمارك. في غضون الأشهر الثلاثة المقبلة، ستُجرى انتخابات عامة لتقييم طبيعة هذه العلاقة.
غرينلاند ليست للبيع، لكن مكانتها الجديدة تمنحها القدرة على المفاضلة بين الولايات المتحدة والدنمارك، وهو وضع قد يمكنها في نهاية المطاف من تحقيق مكاسب.
وتتزايد الأهمية الجيوسياسية للإقليم مع ذوبان غطائه الجليدي الهائل، فغرينلاند، الواقعة شمالاً بين الولايات المتحدة وأوروبا، تحتضن قاعدة عسكرية أميركية تراقب الفضاء وترصد التهديدات الصاروخية، كما تضم احتياطيات ضخمة من الذهب والألماس واليورانيوم والمعادن النادرة المستخدمة في صناعة الأجهزة الإلكترونية، ومن المتوقع أن تصبح جزءاً رئيسياً من طرق الشحن العالمية في العقود المقبلة.
فرص أعمال محتملة في غرينلاند
وأفاد شخص مطلع على المحادثات بأن فريق ترامب الانتقالي أجرى مناقشات منذ نوفمبر مع جهات في القطاع الخاص بشأن فرص الأعمال المحتملة في غرينلاند، ومن بين المشاريع المطروحة تعدين المعادن النادرة، وإقامة منشأة جديدة للطاقة الكهرومائية.
وتأتي هذه المحادثات غير المعلنة بعد تهديد ترامب الثلاثاء الماضي بفرض رسوم جمركية على الدنمارك إذا لم تتخلَّ الدولة الأوروبية عن سيطرتها على غرينلاند. كانت تصريحات الرئيس المنتخب مفاجئة، ما أجبر فريقه على سرعة تبني نهج أكثر إيجابية.
وتساعد المكانة الجديدة لغرينلاند على الساحة الدولية في تعزيز حركة الاستقلال التي نمت بالتزامن مع تصاعد الاستياء من الدنمارك، فعلى الرغم من سيطرة كوبنهاغن على غرينلاند لأكثر من ثلاثة قرون، فإن أخطاء الحقبة الاستعمارية الدنماركية أصبحت أكثر وضوحاً في السنوات الأخيرة. في عام 2022، كُشف عن قيام أطباء دنماركيين بإجبار مراهقات في غرينلاند على استخدام وسائل منع الحمل في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، ولا يزال سكان غرينلاند يشكون من تعرضهم للتمييز العنصري من قبل الدنماركيين.
لماذا تعتبر غرينلاند أصلاً استراتيجياً؟
- موقع استراتيجي في أقصى الشمال على مسافة متساوية بين أوروبا والولايات المتحدة.
- تحتضن قاعدة جوية أميركية، ومحطة رادار لرصد التهديدات الصاروخية ومراقبة الفضاء.
- قريبة من طرق التجارة القطبية الشمالية ذات الأهمية المتزايدة.
- تحتوي على أكثر من 500 نوع مختلف من المعادن في 1460 مكمناً معروفاً.
- غنية بالمعادن النادرة الأساسية لتزويد السكان بالكهرباء.
- تضم احتياطيات محتملة من النفط والغاز.
تقييم العلاقات مع الدنمارك
وتوفر الانتخابات المقبلة فرصة لغرينلاند لإعادة تقييم علاقتها مع الدنمارك، حيث يتوقع أن يكون الاستقلال محور الاهتمام. وفقاً لهيكل الحكم الحالي المعتمد في عام 2009، تتحكم غرينلاند في القضايا الداخلية، مثل التعليم والرعاية الصحية والقضاء، بينما تتولى الدنمارك شؤون السياسة الخارجية والنقدية والأمنية والدستورية.
وفي خطاب ألقاه بمناسبة رأس السنة الجديدة، دعا رئيس الوزراء موتي بي. إيغيدي، الذي يسعى إلى إعادة انتخابه، غرينلاند إلى التخلص من «قيود الحقبة الاستعمارية»، معبراً عن رأي واسع الانتشار في الجزيرة. وهذا الوضع لم يغب عن ذهن الرئيس الأميركي المنتخب.
وقال جاكوب كارسبو، المستشار المستقل لشؤون الأمن الخارجي رئيس المحللين السابق في جهاز الاستخبارات الدفاعية الدنماركي، «ترامب يستغل تماماً مساعي غرينلاند للاستقلال»، مضيفا: «يمكنني بسهولة تصور سيناريو تنفصل فيه غرينلاند عن الدنمارك بعد الانتخابات المقبلة».
أكبر عقبة أمام استقلال غرينلاند تتمثل في الناحية الاقتصادية. حالياً، تتلقى غرينلاند حوالي 600 مليون دولار سنوياً من كوبنهاغن لتمويل نظامي الرعاية الصحية والتعليم، وكلاهما مجانيان للمواطنين، فضلاً عن أمور أخرى. وفي عام 2021، قُدرت القيمة الإجمالية لاقتصاد الجزيرة بحوالي 2.4 مليار دولار، وإذا أعلنت غرينلاند استقلالها فستحتاج إلى إيجاد شركاء جدد لدعمها اقتصادياً. وهنا يأتي دور ترامب.
إعانات أكبر من ترامب
وذكر بيتر فيغو ياكوبسن، الأستاذ في مركز دراسات الحرب بجامعة جنوب الدنمارك والمحاضر في الكلية الملكية للدفاع الدنماركية، «إذا كنت تريد السيطرة على غرينلاند، أو تقريبها من الولايات المتحدة، فيجب أن يتم ذلك من خلال تقديم أموال أكثر مما تحصل عليه حالياً من الدنمارك في شكل إعانات»، متابعاً: «إذا تمكن ترامب من تقديم صفقة أفضل لشعب غرينلاند، يمكنني بسهولة تخيل أن غالبية السكان سيعلنون الاستقلال».
حتى الآن، وكما هي الحال مع العديد من أفكار الرئيس المنتخب، لا يوجد شيء ملموس مطروح للنقاش. وأحد الخيارات هو تعميق الاستثمار في قطاع المعادن الحيوية بالجزيرة، الذي تعتبره الولايات المتحدة ضرورياً لمواجهة الهيمنة الصينية في سوق المعادن النادرة عالمياً.
وفي حديثه خلال فعالية في كوبنهاغن الخميس، قال إيغيدي إن غرينلاند على وشك دخول «مستقبل جديد»، وتحتاج إلى الوحدة، وأضاف: «يريد سكان غرينلاند أن يُعاملوا على قدم المساواة، سواء في الدنمارك أو في أي مكان آخر بالعالم».
ويبدو أن توازن القوى بدأ بالفعل يتحول لمصلحة غرينلاند، فبعد يوم واحد فقط من زيارة مفاجئة استمرت خمس ساعات قام بها دونالد ترامب الابن لعاصمتها نوك، وافقت الدنمارك الأربعاء على مساعدة الإقليم في تمويل مشروع جديد للطاقة الكهرومائية. في الشهر الماضي، بينما أعلن ترامب اهتمامه بغرينلاند، كشفت الحكومة الدنماركية عن استثمارات جديدة لتحسين المنظومة الدفاعية في الجزيرة القطبية.
كما قام ملك الدنمارك فريدريك العاشر بتعديل شعار الدولة الملكي ليبرز غرينلاند بشكل أكبر، واتخذت الحكومة خطوات لدمج الإقليم بشكل أكبر في اتحاد الكومنولث. إضافة إلى ذلك، تم تعيين مترجمين من غرينلاند في البرلمان الدنماركي، لتحسين التواصل خلال عمليات التشريع والنقاشات.
منح غرينلاند دوراً أكبر في السياسة الخارجية
تمنح الدنمارك غرينلاند دوراً أكبر في السياسة الخارجية، وقد أوضحت أن سكان غرينلاند أحرار في تقرير مصيرهم. وقالت رئيسة الوزراء الدنماركية ميته فريدريكسن لمحطات بث محلية هذا الأسبوع: «إنها دولتهم، وغرينلاند وحدها يمكنها أن تحدد وتعرف مستقبلها».
وإذا قررت غرينلاند الانفصال، فإن المسار الأكثر وضوحاً سيكون التحالف مع دولة أخرى، عبر ترتيب سياسي يُعرف بالارتباط الحر، حيث يدخل الإقليم طواعية في شراكة رسمية مع دولة أخرى. لدى جزر كوك ومارشال مثل هذه الترتيبات مع الولايات المتحدة، وإذا أبرمت غرينلاند اتفاقاً مشابهاً فستتمكن من التصرف كدولة مستقلة وتحصل على السيطرة الكاملة على مواردها الطبيعية مع استمرار تلقيها الدعم المالي للخدمات العامة.
مع ذلك، فإن أي ترتيب من هذا النوع لا يزال بعيد المنال. للحصول على الاستقلال، يتعين أولاً على حكومتي الدنمارك وغرينلاند التفاوض بشأن اتفاق يحدد الشروط، والذي سيتعين على سكان غرينلاند، البالغ عددهم 57 ألف نسمة، الموافقة عليه في استفتاء ملزم، كما يتطلب ذلك موافقة برلماني غرينلاند والدنمارك.
ومع اقتراب الانتخابات العامة في غرينلاند هذا الربيع، سيتعين على السياسيين أن يكونوا أكثر وضوحاً بشأن ما يريدونه تحديداً من الاستقلال، وفقاً لما قاله أولريك برام غاد، الخبير في شؤون غرينلاند بالمعهد الدنماركي للدراسات الدولية. حتى الآن، كان السياسيون في غرينلاند غامضين بشأن شكل الإقليم المستقل، وأي دول قد يعتمدون عليها، وكيف سيتم ذلك، وأضاف غاد: «للمرة الأولى، يجب أن يكونوا أكثر تحديداً بشأن ما يقصدونه من الاستقلال».