الدولة منظم الاقتصاد الأول... حتى في الولايات المتحدة

الإدارة الأميركية منعت استحواذاً لـ «ستيل اليابانية» وتضغط لبيع «تيك توك» وتفكيك «غوغل» • في الكويت تخريب لقانون «المنافسة»... وصفقة مصرفية ضخمة تمضي بلا دور رقابي!

نشر في 16-01-2025
آخر تحديث 15-01-2025 | 19:21
محمد البغلي
محمد البغلي

لفتت إجراءات الرئيس الأميركي المنتهية ولايته جو بايدن تجاه منع استحواذ شركة «نيبون ستيل» اليابانية على شركة «يو إس ستيل» الأميركية بقيمة 14.9 مليار دولار بسبب ما اعتبرته مخاطر الصفقة على الأمن القومي في الولايات المتحدة الأنظار إلى دور الدولة في تنظيم الاقتصاد وصفقات التجارة والاستحواذ الكبرى، حتى في أميركا الدولة قائدة العالم الرأسمالي والليبرالية الاقتصادية.

ومع أن بايدن قرر تأجيل تنفيذ قراره بمنع تنفيذ الصفقة، التي خضعت وفق وزيرة الخزانة جانيت يلين إلى تحليل دقيق من لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة (CFIUS)، فإن التأجيل يتيح فقط للشركتين المنضويتين تحت مشروع الاستحواذ للمضي في الطعن القانوني الذي قدّمته الشركتان ضد قرار بايدن في المحاكم الأميركية، وليس تنفيذ الصفقة التي أثار منعها ضجة كبرى في الأسواق الأميركية منذ بداية العام الحالي.

وقبل أشهر، أقرّ مجلس النواب الأميركي مشروع قانون يقضي بحظر تطبيق «تيك توك» في الولايات المتحدة، إذا رفضت شركة بايت دانس الصينية، المالكة للتطبيق، بيع حصتها في غضون عام، بعد أن أعرب كل من الديموقراطيين والجمهوريين مع البيت الأبيض عن مخاوفهم المتعلقة بالأمن القومي الأميركي بخصوص الشركة الصينية مالكة التطبيق.

ليس فقط الأمن القومي

وهذا ليس التدخل الحكومي الأول من نوعه للإدارة الأميركية تجاه تنظيم الاقتصاد، ولا يشترط أن يكون تدخّل الإدارة الحكومية الأميركية مرتبطاً فقط بالأمن القومي، فقبل أشهر، أي خلال يوليو 2024، صدر حكم فدرالي أميركي بناء على دعوى قضائية رفعتها وزارة العدل الأميركية اعتبرت بموجبه عملاق البحث على الإنترنت «غوغل» شركة محتكرة بعد أن تبيّن سيطرتها على ما يتجاوز 85 بالمئة من حجم السوق والإضرار ببقية المنافسين، مما جعلها تحت وطأة تفكيكها إلى شركات متعددة، وهي خطوة نادرة الحدوث منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، عندما فككت الولايات المتحدة عملاق الاتصالات «إيه تي آند تي» (AT&T) إلى 7 شركات متنافسة، بعدما تبينت سيطرتها على أكثر من نصف سوق الاتصالات بالولايات المتحدة، وهذه خطوة فدرالية حكومية عند اتخاذها تنظيم الاقتصاد وتعزيز المنافسة في سوق معيّن أو في خدمة محددة.

النموذج الأمثل

ولا يزال تصدي وزارة العدل الأميركية وهيئة مكافحة الاحتكار عام 2014 لصفقة اندماج عملاقي الحفر والتنقيب النفطي هاليبرتون وبيكر هيوز في صفقة تناهز قيمتها 35 مليار دولار هو النموذج الأمثل في حماية المنافسة والمحافظة على الأعمال المتعلقة بالوسطاء والخدمات الوسيطة واللوجستية في مجال صناعة النفط الأميركي، بل حتى لحماية الابتكار والأبحاث وجودة المنتجات في هذا المجال، رغم أن الصفقة لو تمت فستحسن كفاءة الأرباح للشركتين المندمجتين، فضلاً عن توفير عوائد ضريبية ضخمة للخزانة الأميركية، لكن دور الدولة حتى في أعتى النظم الرأسمالية ليس تمرير الصفقات وتحقيق العوائد المالية، بل إدارة وتنظيم الاقتصاد، بما يحقق مصلحة المستهلكين والمنتجين واستدامة سوق العمل.

برنامج بريطاني

وأوروبياً، ثمّة أمثلة تستحق الذكر في بيان دور الدولة في تنظيم الاقتصاد في العالم الرأسمالي خارج الولايات المتحدة أيضاً، ومنها فوز حزب العمال اليساري في الانتخابات البريطانية باكتساح هو الأكبر منذ 190 سنة، حاملاً معه برنامجاً يعزز الملكية العامة، ويعطي حصة أوسع لوزن الحكومة في تنظيم الاقتصاد ويتعامل بدرجة متحفظة مع مشاريع الخصخصة ونتائجها، لا سيما في قطاعات الطاقة والنقل، فضلاً عن إعلان هيئة المنافسة والأسواق البريطانية قبل يومين أنها ستفتح تحقيقاً رسمياً يتعلق بمكافحة الاحتكار بشأن خدمات البحث وإعلانات شبكة البحث الخاصة بشركة غوغل.

سياسات أوروبية

إلى جانب تدخّل سلطات الاتحاد الأوروبي المستخدمة في منع الصفقات التي تؤدي إلى الإضرار بالمنافسة أو المستهلكين أو السوق، فضلاً عن فرض غرامات مالية باهظة حال ثبوت تلاعب أو تجاوز للقوانين التنظيمية، ونستذكر هنا - والأمثلة عديدة - منع الاتحاد الأوروبي صفقة شراء يونايتد بارسيل سيرفيس لشركة تي. إن. تي إكسبرس بقيمة 7 مليارات دولار، نتيجة عدم تقديم ضمانات كافية بأن الصفقة لن تضر عملاء قطاع البريد في أوروبا، إلى جانب غرامات الاتحاد الأوروبي لشركة أبل بـ 1.95 مليار دولار في قضية لمكافحة احتكار تطبيقات الهاتف المحمول أو غرامة على «غوغل» بـ 2.6 مليار دولار بسبب إساءة استخدام وضعها الاحتكاري في تحطيم الشركات المنافسة التي تعمل في مجال خدمات التسوق.

المنافسة في الكويت

في المقابل، تبدو الكويت بعيدة عن مفاهيم دور الدولة في تنظيم المنافسة أو حماية المستهلكين أو حتى صغار المساهمين، فالقوانين في البلاد تعاد صياغتها لتخدم توجهات الاحتكار والسيطرة التجارية والتركز الاقتصادي، وليس هناك أكثر دليلاً من التعديل أو ربما التخريب التشريعي، الذي حدث في نوفمبر من عام 2020 لقانون حماية المنافسة، الذي شلّ العمود الفقري للقانون السابق 10 لسنة 2007، حيث ميّع النص الحاسم في القانون السابق الذي يجرم عمليات تجريم الاحتكار، عندما استبدل تعريف السيطرة من أنها «وضع يتمكن من خلاله شخص أو مجموعة أشخاص تعمل معاً، بشكل مباشر أو غير مباشر، من التحكم في سوق المنتجات، بالاستحواذ على نسبة تجاوز 35 بالمئة من حجم السوق المعنية»... إلى النص الجديد الذي عرّف السيطرة بأنها «العلاقة القانونية أو التعاقدية التي تؤدي بشكل منفصل أو مجتمع الى التأثير الحاسم»، حيث يسهل النص الجديد السيطرة على أي سوق محدد والتحكم بأسعار منتجاته وجودتها، بل حتى إقصاء المنافسين وتعظيم الممارسات الاحتكارية الضارة بالاقتصاد.

صفقة مفاجئة!

بل على الصعيد العملي، أعلن الأسبوع الماضي تنفيذ صفقة استحواذ بنك وربة على ما يناهز ثلث رأسمال بنك الخليج بقيمة 498 مليون دينار بشكل يقال إنه مفاجئ، من دون إصدار أي بيان أو إفصاح مسبق أو تعليق أو ترخيص أو حتى تفسير معلن من الجهات الحكومية الرقابية والإشرافية، كبنك الكويت المركزي أو هيئة أسواق المال أو جهاز حماية المنافسة، فضلاً عن الجهات الحكومية المالكة لحصص في البنك المستحوذ، وهما الهيئة العامة للاستثمار والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، وهذه حالة تنعكس بشكل لا يليق بسمعة الكويت المالية ومهنية قطاعها المصرفي وشفافية بورصتها وجودة إدارة أصولها، مع أن الفرصة كانت متاحة لرفع مهنية السوق المالي والمؤسسات الحكومية والخاصة في تنفيذ صفقة استحواذ محترفة عالية المهنية في الإفصاح عن خطواتها وتفاصيلها والأخذ بموافقات الجهات التنظيمية والرقابية بعد استيفاء المتطلبات، لكننا مع الأسف كما هي العادة نضيع الفرصة حتى ولو كانت سهلة وواضحة.

ليست اشتراكية

تدخُّل الدولة في تنظيم الاقتصاد وحماية السوق وتحقيق مصالح المستهلكين والمنتجين أو الموردين ليس سياسة اشتراكية كما يظنها البعض، إنما في صميم أعمال الدول الرأسمالية كالولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، وكلما نجحت مؤسسات الدولة في هذا السياق كانت الفرصة لتطوير الاقتصاد والاعتماد على القطاع الخاص أكثر بعد أن تتحقق المهنية في السوق بشكل حقيقي.

back to top