في ظلال الدستور: كأس رد اعتبار العالم العربي والإسلامي
المونديال كظاهرة ثقافية
صدق الأديب الأرجنتيني غبرائيل غارسيا ماركيز الحائز جائزة نوبل في وصفه بطولة كأس العالم بأنها الظاهرة الثقافية الأكثر أهمية في العالم، ولا أذهب بعيداً عن هذا الوصف، في عنوان المقال، عندما أصف وصول المغرب إلى المربع الذهبي ونجاح قطر في تنظيم هذا الحدث العالمي، الذي بهر العالم كله، ونجاح السعودية في إلحاق الهزيمة بالأرجنتين، والهزيمة التي أوقعتها تونس بفرنسا وقد فازت الأرجنتين بكأس العالم في المباراة النهائية بعد فوزها على فرنسا التي جاء ترتيبها الثانية في هذه البطولة، بما يدل على أن العالم العربي والإسلامي، من خلال هذا الحدث وما صاحبه من وقائع وقيم أخلاقية عربية رفيعة قد حصل على كأس رد اعتبار في الثقافة والإدارة والسياسة والسلام، فإذا كانت الرياضة هي جزء من ثقافة الشعوب، فالإدارة والسياسة والسلام، هي أجزاء لا تتجزأ من هذه الثقافة، وقد شاهد العالم على التلفاز الرئيس المصري والرئيس التركي يتصافحان ويتبادلان الحديث الودي في الاجتماع الذي جمعهما في افتتاح هذه البطولة، بعد فرقة وخصام طويلين تابعهما العالم.
المونديال ونصف الكرة الأرضية
يشاهد ويتابع هذه الظاهرة الثقافية نصف سكان الكرة الأرضية، أي ما يقرب من أربعة مليارات نسمة، كانوا أمام شاشات التلفاز، يشاهدون هذا الحدث العالمي والظاهرة الثقافية على أرض عربية، أرض قطر الشقيقة، البطولة العالمية الثانية والعشرين لأكثر الرياضات شعبية على مستوى العالم، فضلاً عما يناهز الأربعة ملايين، الذين وفدوا إلى قطر لمشاهدة هذه البطولة ويشاهدون داخل المدرجات وخارجها وفي شوارع قطر من أخلاق، وعادات وتقاليد عربية تحاكى عنها الغربيون على هامش البطولة بأنها اندثرت عندهم، ويتطلعون إلى العودة إليها، وهو ما قاله مذيع إحدى القنوات الفضائية الألمانية على الهواء مباشرة.
العلم الفلسطيني طاغ في المونديال
كما كان للوجود الفلسطيني في هذه البطولة أثر في إثارة مأساة الشعب الفلسطيني، والإبادة الجماعية للفلسطينيين التي يمارسها الاحتلال الاستيطاني، على الأرض الفلسطينية، فالأعلام الفلسطينية في المدرجات وفي شوارع قطر، وفي الاحتفالات العربية بفوز كل من المملكة العربية السعودية وتونس والمغرب، وعلى الأخص الاحتفال بتتويج المغرب بالمربع الذهبي وهو ما كشفت عنه وكالة الأنباء الفرنسية في تقريرها الذي بثته للعالم كله في 28 نوفمبر الماضي، وعنونته بأن «العلم الفلسطيني طاغ في المونديال».
الدم المغربي
فالتاريخ لا ينسى أنه في الحادي عشر من شهر رمضان لسنة 1382ه (1963)، لقي الزعيم المغربي محمد عبدالكريم الخطابي ربه في مصر، بعد أن عز عليه فراقها، وقد أقام على أرضها الطيبة ستة عشر عاماً، منذ أن لجأ إليها، في عام 1947، وقد فر بمعاونة أنصاره والسلطات المصرية، على ظهر الباخرة «كاتوما» أثناء عبورها قناة السويس، والتي كانت تقله من منفاه في جزيرة «لارينيون» في المحيط الهندي، للإقامة الجبرية في فرنسا، بعد أن قضى في هذا المنفى 21 عاماً، وكان ملك المغرب الراحل محمد الخامس في زيارة لمصر عام 1960، قد اتصل بالأمير الخطابي وطلب منه العودة إلى المغرب والاستقرار في طنجة ليشهد ثمار نضاله مع أهله وقومه، ولكن المنية وافتة قبل أن يحقق ما طلبه منه العاهل المغربي.
وكان الأمير الخطابي قد قاد ثورة الريف المغربي (1920- 1926) بعد وفاة والده عبدالكريم الخطابي، الذي كان قد أعلن الجهاد ضد الاستعمار الإسباني– الفرنسي وبسبب إصابته بمرض مع تقدم عمره، اندلعت ثورة الريف المغربي بقيادة نجله محمد، فانضم إليه الثوار من كل أنحاء المغرب، حيث استطاع بألف مقاتل من الثوار، أن يقضي على القوات الإسبانية الاستعمارية التي كان قوامها 25 ألفاً، وغطت جثث القتلى وأرتال الأسرى والجرحى مسافة خمسة أميال، كما استولى الثوار على قلعة «نوال» وما كانت تحتوية من أسلحة وذخائر ومواد تموينية.
عدوان ثلاثي على المغرب
وتزايد عدد الثوار بعد هذا الانتصار، ليصل جيشهم إلى 1600 مقاتل استطاعوا أن يحرروا معظم المناطق التي كانت تحت السيطرة الإسبانية، ولم يبق سوى بعض المدن الساحلية المحصنة مثل مليلة وسبتة، وتدافع عنهما حامية إسبانية قوية، فأعلن رئيس الحكومة الإسبانية آنذاك استدعاء جميع قوات الجيش الإسباني، وحاولت إسبانيا التفاوض مع الثوار، إلا أن الخطابي أصر على مطلب الثوار وهو الجلاء عن المغرب، ودفع تعويضات مالية كبيرة بسبب هذا الاحتلال.
واستشعرت إنكلترا وفرنسا الخطر من انتصارات ثورة الريف المغربي، فتوجهت الأساطيل البريطانية إلى سواحل الريف المغربي، فأحكمت الحصار حوله، وأعادت القوات الإسبانية تنظيمها، فأنزلت قواتها في الحسمية، بدعم من الأسطول الفرنسي، لتحتل أغادير، وتقدم الجيش الإسباني إلى الشرق، ليلتقى بجيش إسباني آخر قادم من مليلة، إلا أن الثوار رغم قلة عددهم وعتادهم استطاعوا أن يلحقوا بالقوات الإسبانية هزيمة ثانية.
وأخذ هذا النصر يستنفر القبائل والمجاهدين، فتدخلت فرنسا بأسطولها وطائراتها وقواتها، وبمؤامرتها كذلك لفك وثاق الارتباط القوى بين العروبة والاسلام، باستمالة البربر المسلمين، لشق صفوف قوات الثورة، وحشدت 120000 جندي، و22 سرباً من الطائرات، ومع ذلك فقد حقق الثوار في أول الأمر بطولات رائعة وانتصارات لا تتناسب وأعدادهم وسلاحهم فلجأت فرنسا إلى الخديعة لتعرض على الأمير الخطابي الصلح في عهد مكتوب أرسلته له، تلتزم فيه برعايته وأسرته، وعدم ملاحقة الثوار، فشاور الأمير الثوار في مؤتمر عقدوه لهذا الغرض، ولم يكن أمامهم سوى التسليم لفرنسا وفقاً لشروط هذا التعهد، أمام هذا التحالف الثلاثي العدواني من إنكلترا وفرنسا وإسبانيا، في هجمة استعمارية قوامها ربع مليون جندي مقاتل وأساطيل الدول الثلاث فاستسلم الثوار لفرنسا، إلا أن فرنسا نقضت عهدها، ونفت الأمير إلى جزيرة «لارينيون»، واعتقلت الثوار وحاكمتهم، وانتهى الاحتلال الإسباني والفرنسي للمغرب بعد ذلك بسنوات طويلة، وعاد المغرب عزيزاً شامخاً، في حلبة الملاعب، بعد حلبة الحروب، ليرد الاعتبار للدم المغربي.
وهكذا حسم المغرب الحرب التي نشبت بينه وبين إسبانيا في عام 1922، واستمرت أربع سنوات تحالف فيها معها فرنسا وبريطانيا، بأن أقصى المغرب إسبانيا، من المربع الذهبي في البطولة في مباراة لم تجاوز تسعين دقيقة، وهزمت تونس فرنسا في هذه البطولة.
كأس التنظيم والصمود
وقد بهرت قطر العالم كله، بأعلى مستوى لتنظيم هذه البطولة، التي لم يسبق أن شهد مثلها العالم في إحدى وعشرين بطولة عالمية لكأس العالم في كرة القدم، منذ أن بدأت هذه البطولة، وصمود قطر وتمسكها بخصوصيتها في دينها الذي تعتز به وفي عاداتها وتقاليدها الراسخة في الوجدان العربي والإسلامي، أمام الضغوط الغربية التي استنكرت رفض قطر لرفع شعارات المثليين أو السماح بشرب الخمر في الملاعب والاماكن العامة، وكان المستنكرون لذلك قد حملوا ألوية الحرية الشخصية بعد أن ابتذلوها، وهم لا يقيمون وزناً لأكثر من مدلولها اللفظي، وبما يتناقض مع مدلولها الأخلاقي والإنساني، فاخرجتها قطر من دائرة الابتذال المضروبة حولها والمخنوقة بها، في هذا العالم الساخر بالقيم والمقاييس، فهنيئاً لقطر على إصرارها على موقفها من رفض هذه العاهات الاجتماعية.