في أغسطس 1991، حضر الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب إلى كييف كي ينصح الأوكرانيين بالامتناع عن إقامة دولة خاصة بهم، فقبل أسابيع قليلة من إعلان أوكرانيا استقلالها، وقبل أشهر على سقوط الاتحاد السوفياتي، كان بوش يشعر بالقلق من تداعيات انهيار السلطة السوفياتية، فحمل قادة غربيون آخرون هذه المخاوف حينها، بما في ذلك المستشار الألماني هلموت كول ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر، وإذا تلاشت سيطرة موسكو على إمبراطوريتها، سادت مخاوف كبرى من أن تجتاح مظاهر القومية والصراعات العرقية البلد وتصل الأسلحة النووية إلى أشخاص بلا مسؤولية، لكن بدا هؤلاء القادة، رغم جميع إنجازاتهم للتحكم في ظروف إنهاء الحرب الباردة، على الجانب الخطأ من التاريخ بسبب موقفهم من حق الشعوب الأسيرة في موسكو في تقرير مصيرها. لحسن الحظ، لم تلتزم أوكرانيا والجمهوريات السوفياتية السابقة الأخرى بتوصياتهم وأصبحت هذه الدول مستقلة الآن.
اليوم، تنتشر المخاوف نفسها في العواصم الغربية، فعلى وقع الانتكاسات التي يواجهها نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسبب حرب الكرملين الكارثية ضد أوكرانيا، أصبح انهيار النظام الروسي، أو حتى تفكك روسيا المحتمل، من أبرز أسباب القلق في الوقت الراهن، إذ تراجع مستوى دعم الحرب وسط المواطنين الروس، وتوسّعت الانتقادات رغم حملات القمع الصارمة، وهرب مئات آلاف الرجال من البلد منذ أن أعلن بوتين التعبئة الجزئية في أواخر شهر سبتمبر.
مجدداً، يتردد الغرب في تحديد أفضل طريقة للسيطرة على هذه الاضطرابات، وقد يكرر الخطأ الذي ارتكبه في عام 1991، فعبّر عدد كبير من القادة الغربيين عن مخاوفه من تحقيق انتصار أوكراني خلال الحرب المستمرة مع روسيا، ونتيجةً لذلك، صدرت سلسلة من المواقف المبهمة لتجنب التطرق إلى مسألة إنهاء الحرب، وبدل استعمال كلمات واضحة للتكلم عن انتصار أوكرانيا، يُركّز القادة على حرمان بوتين من النجاح الذي يسعى إليه، فأقصى ما يستطيع المستشار الألماني أولاف شولتس فعله هو إعلان عجز بوتين عن الفوز، وحتى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي لم يفوّت أي فرصة لإعلان رغبته في التفاوض مع بوتين، صرّح بأن أي نهاية لحرب الإبادة التي أطلقها الكرملين يجب ألا تهين الرئيس الروسي.
من اللافت أن يخشى قادة أوروبا الغربية تصعيد الوضع أكثر من البلدان الأقرب إلى روسيا، مع أن هذه الدول ستتأثر مباشرةً بأي تصعيد للحرب، بالإضافة إلى تدفق اللاجئين، سبق أن وصلت تداعيات الحرب إلى أراضيهم، فحين سقط صاروخ دفاعي جوي أوكراني فوق أرض بولندية خلال واحد من اعتداءات روسيا المتعددة ضد البنية التحتية المدنية وأسفر عن مقتل شخصَين في 15 نوفمبر، اعتبر البولنديون تلك الحادثة دليلاً على حاجة أوكرانيا إلى المزيد من المساعدات العسكرية الغربية، وإذا قررت روسيا استعمال الأسلحة النووية أو مهاجمة محطة أوكرانية للطاقة النووية، فستصل المخلفات النووية إلى البلدان المجاورة أولاً، حتى أن هذه البلدان ستواجه أكبر الأعباء حين تتدفق موجات جديدة من اللاجئين الأوكرانيين، لكنها مستعدة لاستقبالهم.
على عكس الحكومات الغربية، تُركّز دول البلطيق وبولندا على مواقف بوتين والنُخَب الروسية، بما في ذلك نيّتهم المعلنة باسترجاع نطاق السيطرة الذي كانت تتمتع به الإمبراطورية الغابرة، فقد يؤدي الغزو إلى نتيجتَين محتملتَين: إما أن تعيد روسيا فرض نفوذها في البلدان المجاورة لها عن طريق العنف، فتبدأ من أوكرانيا وتتابع مسارها في دول أخرى كانت تسيطر عليها سابقاً، وإما أن تعيد أوكرانيا التأكيد على حريتها وتنضم في نهاية المطاف إلى المجتمع الأوروبي الأطلسي كبلد كامل العضوية، كما فعلت دول البلطيق وأعضاء سابقون في الاتحاد السوفياتي. أي خيار وسطي بين هذين الاحتمالَين، مثل وقف إطلاق النار لتجميد الصراع، قد يسمح لبوتين أو خَلَفه بإعادة التسلّح والتزوّد بالإمدادات وإطلاق الصراع من جديد، وكي تضمن أوكرانيا حريتها، يجب أن تواجه روسيا هزيمة واضحة في الحرب.
لا يعني ذلك عدم التعامل بجدّية مع المخاوف المرتبطة بأسلحة روسيا النووية، وللسيطرة على هذا النوع من التهديدات، تبرز الحاجة إلى خليط من الحذر والصرامة من الجانب الغربي، لكن بسبب المواقف الحذرة بدرجة مفرطة، كانت روسيا ذكية بما يكفي للتلاعب بالمخاوف السائدة من وقوع كارثة نووية وإقناع الغرب بالامتناع عن إرسال دفعة أقوى من الأسلحة الثقيلة وطويلة المدى إلى أوكرانيا، لكن الغرب بدأ الآن يعيد تعلّم معنى الردع لحسن الحظ، حتى أنه وجّه رسالة واضحة إلى روسيا حول العواقب الكارثية التي سيتحمّلها البلد إذا نفّذ تهديداته النووية، وستزيد فرص الاستقرار العالمي إذا فشل الكرملين في استعمال الابتزاز النووي لتحقيق انتصار في أوكرانيا، كذلك، سيواجه بوتين مخاطر متزايدة إذا لجأت روسيا إلى الأسلحة النووية، لذا يبدو هذا الخيار مستبعداً، وفي مطلق الأحوال، يبقى لجوء روسيا إلى القوة التقليدية لاحتلال الأراضي في جوارها واقعاً كارثياً للأسف.
من المستبعد أن تتخلى موسكو عن خططها الإمبريالية في الدول المجاورة في أي وقت قريب، وتثبت أي مراجعة للأحداث التاريخية أن الهزيمة الواضحة وحدها تستطيع تغيير منطق التفكير السائد، وتبدو الفكرة القائلة إن روسيا لن تحافظ على أمنها، إلا إذا هيمنت على جيرانها الأصغر حجماً وسيطرت على نطاق نفوذها، قناعة راسخة في تفكير الروس منذ قرون، ولم ينجح أي بلد أصغر حجماً في جوار روسيا في إقامة علاقات صداقة حقيقية حتى الآن، حتى فنلندا التي جرّبت جميع الوسائل، باستثناء السماح باحتلالها، تخلّت عن محاولاتها، وهي تتجه للانضمام إلى حلف الناتو، ومن المتوقع أن ينبثق الرئيس الروسي المقبل من داخل النظام الحالي الذي تطغى عليه قوات الأمن، مما يعني أن يمثّل القيم نفسها ويحمل الرؤية العالمية التي يلوّح بها البلد اليوم في أوكرانيا، ونتيجةً لذلك، يبدو تفكك روسيا أقل احتمالاً من استمرار الحُكم المركزي الاستبدادي القمعي.
لكن رغم هذه الوقائع الواضحة، يأمل بعض القادة الغربيين حتى الآن في العودة إلى نسخة من الوضع القديم مع روسيا، ويبدو شولتس متخبطاً في مواقفه بشأن المساعدات العسكرية الموجّهة إلى أوكرانيا، لأنه يتمنى أن «نعود إلى نظام السلام الذي أثبت نجاحه ونمنحه طابعاً آمناً من جديد». أمام هذا الوضع، يتساءل جيران روسيا عن طبيعة «النظام الناجح» الذي يعنيه شولتس، وخلال الحرب الباردة، تعرّضت أجزاء واسعة من أوروبا الوسطى والشرقية للاحتلال، وخلال التسعينيات، حرّضت روسيا على شن الحروب والصراعات المجمّدة في الدول السوفياتية السابقة لإبقائها تحت سيطرتها، ثم أقدمت روسيا على غزو جورجيا في عام 2008، وهي تحارب أوكرانيا وتحتلّها منذ عام 2014، ولم تُصدِر الحكومات الغربية مواقف دبلوماسية كثيرة حول هذه المسائل ولم تفرض عقوبات كبرى، بل دعمت نطاق النفوذ الروسي عبر إعاقة طموحات أوكرانيا وجورجيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، فكانت هذه المواقف الحذرة تنجم عن رغبة واضحة في إخماد الاضطرابات وإرساء الاستقرار، لكنها شجّعت روسيvا على فرض «نظامها الناجح» بالقوة.
اليوم، تشمل أكثر المناطق استقراراً في جوار روسيا البلدان التي انضمّت إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي بقرار شخصي منها للتحرر من سطوة موسكو، فبدأت أوكرانيا تسير على الطريق نفسه، وهي تحظى بدعم أكثر من 80% من سكانها، وخلال التسعينيات، اضطرت دول البلطيق لتجاوز شكوك قوية في العواصم الغربية حول صوابية توسيع نطاق الاتحاد الأوروبي والناتو كي يشملا أي جمهوريات سوفياتية سابقة. يتابع بعض المراقبين الغربيين حتى الآن تكرار مزاعم الكرملين حول ارتباط توسّع الناتو بتنامي عدائية روسيا، لكن يدرك جيران روسيا جيداً أن الناتو ليس مسؤولاً عن الإمبريالية الروسية العدائية القائمة منذ قرون، أي قبل نشوء الحلف بكثير، وتبيّن أصلاً أن توسّع الناتو كان أنجح وسيلة لاحتواء موسكو، ولا مفر من أن تتراجع روسيا حين تردعها جهة أقوى منها.
في النهاية، قد تكون شجاعة الأوكرانيين وتصميمهم على الدفاع عن استقلالهم فرصة تاريخية للولايات المتحدة وأوروبا لتوجيه ضربة حاسمة ضد الإمبريالية الروسية والنزعة القومية السامة، لكن القوى الغربية الكبرى تتردد حتى الآن في دعم هذا التوجه، وتحظى أوكرانيا بدعمٍ قوي من دول البلطيق وبولندا، وهي تُصِرّ على أهمية محاربة روسيا وعزلها ومعاقبتها إلى أن تنسحب بالكامل من أوكرانيا، وتدفع تعويضات عن أضرار الحرب، وتسلّم الروس المتّهمين بارتكاب جرائم حرب لمحاكمتهم. ستكون هذه العملية طويلة وشاقة، وهي تتطلب تغييراً في منطق التفكير الغربي، لكنها مقاربة ضرورية لتصحيح أخطاء الماضي في طريقة التعامل مع العدوان الروسي، وفي نهاية المطاف، ستكون أوكرانيا الحرّة، والديموقراطية، والآمنة على حدودها، والمندمجة بالكامل مع المجتمع العابر للأطلسي، أفضل فرصة ممكنة لإحداث تحوّل عميق داخل روسيا، إنها النتيجة الوحيدة القادرة على إطلاق حقبة سلام حقيقية يوماً في علاقات روسيا مع جيرانها.
*كريستي رايك