أصدرت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، على مر هذا الخريف، أربع مراجعات مهمة، وهي تطرح رؤية جديدة عن منطق التفكير الاستراتيجي الأميركي، ففي 12 نوفمير نشر البيت الأبيض أحدث نسخة من استراتيجية الأمن القومي في عهد بايدن، وبعد مرور أسبوعين، أصدرت وزارة الدفاع الأميركية، في 17 أكتوبر، نُسَخاً معلنة من ثلاث وثائق منتظرة أخرى: استراتيجية الدفاع الوطني، ومراجعة الوضع النووي، ومراجعة الدفاع الصاروخي.
تعرض هذه الوثائق مُجتمعةً لمحة عن وجهة إدارة بايدن السياسية، وهي تعتبر العقد الراهن «حاسماً»، وترتكز أحدث مقاربة سياسية على النزعات الأمنية المعتمدة حتى الآن، لكنها تشمل خصائص جديدة قد تعطي تداعيات واسعة النطاق على الأمن العالمي.
يشدد الخط السياسي الجديد على أهمية الدور الأميركي القيادي ويدعو إلى تقوية تحالفات الولايات المتحدة، لكنه يُركّز بدرجة غير مسبوقة على التهديدات التي تطرحها جمهورية الصين الشعبية، ففقد بدأت واشنطن تُحوّل تركيزها إلى «محور آسيا» خلال عهد باراك أوباما، حين أصبح صعود الصين مصدر قلق لمنطق التفكير الاستراتيجي الأميركي، لكن لم تصبح الصين منافِسة البلد الأساسية، بدل روسيا، إلا في عهد دونالد ترامب.
أصبحت إعادة النظر بالعلاقات الصينية الأميركية واضحة في الوثائق الرسمية التي صدرت بعد عهده، منها استراتيجية الأمن القومي لعام 2017، فهي أكدت على مساعي الصين إلى «تحدّي قوة الولايات المتحدة، ونفوذها، ومصالحها»، كذلك، اعتبرت استراتيجية الدفاع الوطني لعام 2018 بكين «منافِسة استراتيجية» تسعى إلى فرض «هيمنتها الإقليمية على منطقة المحيطَين الهندي والهادئ على المدى القريب وإزاحة الولايات المتحدة للسيطرة على العالم مستقبلاً».
تؤكد الرؤية الاستراتيجية الجديدة لإدارة بايدن، بالشكل الوارد في الوثائق الجديدة، على الأفكار السابقة، فهي تعتبر الصين «أكبر مصدر للتحديات الجيوسياسية المطروحة على الولايات المتحدة»، حتى أنها تعطي الأولوية للتفوق على بكين من حيث الأهداف الإقليمية والعالمية المعلنة، وفي المقابل، تُعتبر روسيا تهديداً ثانوياً يجب كبحه، رغم استمرار الحرب في أوكرانيا.
يتّضح تركيز السياسة الأميركية غير المسبوق على الصين في مراجعة الوضع النووي ومراجعة الدفاع الصاروخي أيضاً، وعلى عكس وعود بايدن الانتخابية بتبنّي سياسة أحادية الهدف (هو أعلن أن الهدف الوحيد من الترسانة النووية الأميركية يتعلق بردع الخصوم)، تأتي مراجعة الوضع النووي لعام 2022 لتؤكد على أهمية الأسلحة النووية في السياسة الأمنية الأميركية، نظراً إلى تصاعد التهديدات التي يطرحها الخصوم، ومن المتوقع أن يؤدي هذا التركيز المستجد على قابلية استخدام الأسلحة النووية إلى طرح معضلة أمنية حادة في الصين وروسيا، مما يدفع هذين البلدين إلى تقوية قدراتهما أيضاً، وفي غضون ذلك، لا مفر من أن يُضعِف هذا التركيز المتجدد على الأسلحة النووية الأمن الأميركي، أو ربما يزيد احتمال تصعيد المخاطر النووية عن غير قصد.
تتعلق مشكلة أخرى على صلة بهذا التركيز المستجد على أهمية الأسلحة النووية بتراجع رغبة الأطراف المعنية في المشاركة في أي اتفاقيات مستقبلية للحد من التسلح، وتُشدد مراجعة الوضع النووي على الحد من التسلح، لكن من المستبعد أن تهتم الصين وروسيا بهذا البند أو تلتزما به لأنهما تفضّلان على الأرجح الرد على توسّع الترسانة النووية الأميركية، حتى أن اهتمام الولايات المتحدة بهذه المسألة قد يتراجع، فقد بدأ البلد أصلاً يعزز خطط تحديث ترسانته النووية ويستعد للتعامل مع منافِسَين مسلّحَين نووياً.
يتعلق عنصر مقلق آخر بتجدّد التركيز على تطوير تصاميم جديدة للأسلحة بدل الاكتفاء بتحديث أنظمة التسلح القائمة، وتستطيع الولايات المتحدة أن تنفذ هذه المهمة بمساعدة الحواسيب الفائقة ومن دون انتهاك قرار تعليق التجارب النووية، لكنها قد تؤجج الرغبة في زيادة هذا النوع من الاختبارات في دول نووية أخرى، مما يؤدي إلى إضعاف القيمة المعيارية لمنظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية.
على صعيد آخر، زادت استراتيجية إدارة بايدن الجديدة التركيز على مفهوم الردع المتكامل الذي يتجاوز حدود الردع التقليدي والنووي، فوفق أحدث نسخة من استراتيجية الأمن القومي، يجب أن يندمج نظام الردع مع مختلف القطاعات، بما في ذلك المجالات العسكرية وغير العسكرية، لكن يُفترض أن يشمل أيضاً مختلف المناطق ويتجاوز الصراعات ونطاق التحالفات والشراكات الأميركية، فمن جهة، يزيد هذا التوجه خطر الاشتباكات، لكنه يشير من جهة أخرى إلى رسم خطوط أكثر وضوحاً للمعارك، فتتراجع المساحة المتبقية للدول التي تريد إقامة التوازن المطلوب في علاقاتها ولا ترغب في طرح نفسها كشريكة حصرية للصين أو الولايات المتحدة، لا سيما في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ.
قد تطرح هذه النظرة الضيقة التي تعتبر الصين منافِسة استراتيجية تحديات إضافية على شركاء واشنطن الحاليين في المنطقة، لأن أهدافهم السياسية قد لا تتماشى بالكامل مع الأهداف الأميركية تجاه الصين، فتسعى كوريا الجنوبية مثلاً إلى عقد شراكة مع الولايات المتحدة وتعزيز أمنها في وجه التهديدات الكورية الشمالية، لكنها أقل ميلاً إلى المجازفة بعلاقتها مع الصين.
كذلك، تُعتبر الهند شريكة دفاعية لردع العدوان الصيني، لكنها لا تبدي استعداداً كاملاً لتبنّي المواقف الأميركية في جميع مسائل السياسة الخارجية، وقد اتّضح ذلك في الموقف الهندي الراهن من الحرب المستمرة بين روسيا وأوكرانيا، ورغم استمرار الاضطرابات الحدودية مع الصين ودعم الحوار الأمني الرباعي، تتمسك الهند بسياسة مبنية على تجنب استفزاز الصين، وتحمل الولايات المتحدة والهند أولويات مختلفة في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ أيضاً، إذ يُركّز الأمن الأميركي على بحر الصين الجنوبي في حين تهتم الهند في المقام الأول بمنطقة غرب المحيط الهندي. قد لا تنجح قدرات الهند العسكرية، التي زادت قوة بمساعدة الولايات المتحدة، في احتواء الصين، لكنها ستؤثر على الأرجح بالأمن الإقليمي في جنوب آسيا، حتى أنها قد تزعزع العلاقات الهندية الباكستانية.
أخيراً، ذكرت الوثائق السياسية الجديدة هدفاً متعلقاً «برسم معالم النظام الدولي بطريقة استباقية» تخدم مصالح الولايات المتحدة، ويتطلب هذا الطموح موارد مكثفة ويشترط وجود شبكة من الحلفاء والشركاء، علماً أن درجة دعمهم لهذه السياسة لا تزال متفاوتة في الوقت الراهن.
* سيتارا نور