في ظلال الدستور: تنفيذ الأحكام الجزائية الغيابية عدوان على حقوق المواطن وحرياته بالمخالفة للدستور (2-2)
تناولت في مقالي المنشور على هذه الصفحة تحت العنوان ذاته يوم الأحد 27 - 11 - 2022، ما ينطوي عليه شمول الأحكام الجزائية الغيابية بالنفاذ الفوري، والذي لا توقفه المعارضة في الحكم نفاذه، من مخالفة لأحكام الدستور، فيما تنص عليه المادة (28) من أنه «لا يجوز إبعاد الكويتي عن الكويت أو منعه من العودة إليها»، حيث يترتب على صدور مثل هذا الحكم والمواطن خارج البلاد، أن يقف هذا الحكم مانعاً دون عودة المواطن إلى بلده، ليمارس حقه في الدفاع عن نفسه، بعد المعارضة في الحكم، وقد يلقى ربه قبل أن تسقط العقوبة.
ونتناول في مقال اليوم المثالب الدستورية الأخرى في المادة (214) من قانون الإجراءات الجزائية التي رخصت للمحاكم شمول الحكم الغيابي بالنفاذ الفوري ومنها:
افتراض البراءة في الإنسان
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «ادرؤوا الحدودَ عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرجٌ، فخلُّوا سبيلَه، فإنَّ الإمامَ أن يُخطِئَ في العفوِ، خيرٌ من أن يُخطِئَ في العقوبةِ». وفي سياق هذا الحديث قاعدة أصبحت جزءاً من الضمير الإنساني، وهي افتراض البراءة في الإنسان، جسدتها المادة (11) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والفقرة الثانية من المادة (14) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وجسدتها الدساتير الحديثة ومنها دستور الكويت الذي نص في المادة (34) على أن «المتهم بريء حتى تثبت إدانته»، في محاكمة قانونية، تؤمن له فيها كل الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع.
وقد قضت المحكمة الدستورية العليا في مصر بأن افتراض البراءة في الإنسان قرينة تؤسس على الفطرة التي جبل عليها، إلى أن تنقض بقضاء باتّ، وهي أصل ثابت يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، وينسحب أثرها إلى الدعوى الجنائية في جميع مراحلها وعلى امتداد إجراءاتها. (المحكمة الدستورية ق31 لسنة 16ق دستورية).
المواطن يُحرَم المحاكمة المنصفة العادلة لغيابه خارج البلاد وصدور حكم غيابي جزائي بعقابه
كما قضت المحكمة الدستورية في الكويت بأنه يندرج تحت ضوابط المحاكمة المنصفة أصل البراءة كقاعدة أساسية تفرضها الفطرة وتوجبها حقائق الأشياء، وهي قاعدة حرص الدستور على التأكيد عليها في المادة (34) منه، وأصل البراءة باعتباره قاعدة أساسية في النظام الاتهامي إنما يمتد إلى كل فرد سواء أكان مشتبها فيه أم متهما، وهذه القاعدة التي أقرتها الشرائع والمواثيق الدولية ليس القصد منها حماية المذنبين إنما لتدرأ بمقتضاها العقوبة عن الفرد إذا كانت التهمة الموجهة إليه تحيطها الشبهات، دون التيقن من مقارفة المتهم للفعل محل الاتهام. (القضية رقم 4 لسنة 2 ق دستوري).
حماية المتهم وحظر إيذائه
وهو ما كفله للمتهم الدستور الكويتي في المادتين (31) و(34)، وتحظر أولاهما أن يتعرض أي إنسان للتعذيب أو المعاملة الحاطة بالكرامة، وتحظر الثانية إيذاء المتهم جسمانياً أو معنوياً.
والحماية المقررة للمتهم بموجب هذا تعتبر حقاً دستورياً للمتهم، حيث يتناقض مع هذا الحق الدستوري ما يتمتع به المبلغ من حمايته، ولو كان بلاغه الذي أدين به المتهم بسببه كيديا، فهو لا يكلف بحضور المحاكمة، لتناقشه المحكمة فيما قدمه ونسبه الى المتهم، ولا يعاد تكليفه بالحضور، إذا غاب اكتفاء بالبلاغ الذي قدمه.
المحاكمة المنصفة العادلة
ويحرم المواطن من المحاكمة المنصفة العادلة بسبب غيابه خارج البلاد، وصدور حكم غيابي جزائي بعقابه بالحبس في جريمة، دون أن يحاط علما بما نسب إليه عن فعل مؤثم جزائيا.
فمن ضوابط المحاكمة المنصفة العادلة للمحاكمات الجزائية، ألا يساء استخدام العقوبة تشويها لأهدافها، بإهدار افتراض البراءة في الإنسان، وبما يخل بالتوازن بين حق الفرد في الحرية من جهة، وحق المجتمع في الدفاع عن مصالحه الأساسية من جهة أخرى.
ولا يجوز أن تخل القواعد المنصوص عليها في قوانين الإجراءات الجزائية بالحد الأدنى لتلك الحقوق التي لا يطمئن المتهم مع غيابها، إلى الفصل في الدعوى الجزائية بطريقة منصفة وعادلة، وأن يخطر المتهم بحقيقة الاتهام الموجه إليه وأن يحاط بالأدلة التي تثبتها، وأن توفر للمتهم المحاكمة القانونية التي تؤمن فيها للمتهم الضمانات لممارسة حق الدفاع، إعمالا لأحكام المادة (34) من الدستور فيما تنص عليه من: «المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع، ويحظر إيذاء المتهم جسمانيا أو معنويا». الأمر الذي ينطوى تنفيذ الحكم الغيابي على المواطن، الموجود خارج البلاد، على مخالفة أحكام المادة (34) من الدستور، فضلا عن مخالفته للفقرة الثالثة من المادة (6) من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان.
ووفقا لأحكام الفقرة الأولى من هذه المادة، يكون لكل متهم حق الاستماع إليه، وفق إجراءات منصفة، وأن يتاح للمتهم الوسائل الإجرائية الضرورية لنفي التهمة الموجهة إليه.
وهي الوسائل التي يحرم منها المتهم في محاكمة غيابية، يصدر عليه فيها حكم بعقوبة الحبس، دون أن تتاح له فيها حقوقه في نفي الاتهام المنسوب إليه، والذي حال دون ذلك وجوده خارج البلاد، وتنفيذ العقوبة عليه فور عودته، وفي المطار، بالرغم من معارضته في هذا الحكم.
ونعتقد أنه قد آن الأوان، لتكون للحريات والضمانات التي كفلها الدستور، مكانتها اللائقة بها في قانون الإجراءات الجزائية، بتعديله لوضع ضوابط المحاكمة المنصفة فيه، وخصوصاً بالنسبة إلى الأولى، الغيابية، وتخليص إجراءاته من شبهة عدم الدستورية.