الظاهرة الأهم في المجتمع خلال ال3 أشهر المنصرمة، ليست حالة التوهان، الحكومي والبرلماني، ولكنها حجم وكثافة الاستقالات، أو الإقالات، لأكثر من 42 منصباً قيادياً في كل إدارات الدولة تقريباً، حتى الآن، مما يجعلها تبدو وكأنها منظمة، ومخطط لها، ولا أظنها كذلك.
منذ قرابة ال90 عاماً، طفا على السطح مصطلح «التطهير» في أوروبا، إبان الحكم النازي، وضده بعد هزيمته، ثم أوروبا، ثم طاف أصقاع الدنيا، حيث لاحق المهيمنون الجدد أركان «العهد البائد»، وأزاحوهم من مناصبهم، وتمت تصفيتهم وعزلهم عن الحياة العامة. ولم تسلم حتى أميركا من ممارسات شبيهة، في الخمسينيات باسم المكارثية. وهكذا بات مصطلح «التطهير السياسي» راسخاً في أدبيات العلوم السياسية. وعندما سقط النظام العراقي السابق في 2003، ظهر لنا مصطلح جديد، يواكب المكان والزمان، بعنوان «اجتثاث البعث»، إلى أن جرى تخفيفه في 2004.
لا يبدو أن ما يجري عندنا، فيه ملامح «تطهير» أو «اجتثاث»، فلا بدائل جذرية، ولا هي مخطط لها، وكلها تحت هيمنة سلطة لم تتغير، فالخروج الجماعي مليء بالمتناقضات، معبر عن حالة الارتباك العامة، التي تسمح بانتهازية مفرطة. فالصراعات عندنا أكثر ما تظهر للسطح في الجهاز الإداري للدولة، ذلك الفيل الضخم، الذي بدون تخفيف شحمه الزائد لا أمل يرتجى لأي تصور تنفيذي، والشواهد على ذلك كثيرة. ومع ذلك، فإن الحد الأدنى المطلوب من مجلس الأمة ألا يسعى بعض نوابه لركوب الموجة، وانتهاز الفرصة، لإقالة مسؤول هنا أو مسؤول هناك، بل تشكيل لجنة تقصي حقائق عن حالة الخروج الجماعي التي تطرح أسئلة أكثر مما تقدم إجابات، لا عن أشخاص من غادروا، أو أشخاص من سيأتون، ولكن عن الحالة العامة للدولة.
يحدث ذلك ونحن في إطار بلورة «عهد جديد»، وهو مصطلح فضفاض، تم استخدامه سابقاً. ففي 2006 مثلاً، شاركتُ في ندوة عامة عنوانها «ماذا نتوقع من العهد الجديد؟»، وحتى الآن لم تتضح معالم ذلك العهد الجديد، حتى دخلنا في عهد جديد آخر.
أما وضعنا الراهن، ومنذ خطاب 22 يونيو، الذي جاء بإصلاحات انتخابية مستحقة، أخرجتنا من انسداد مزمن لارتباك سياسي، هذه بعض مظاهره، فنأمل أن ينتهي قريباً، حيث لم تسلم مؤسسة من استقالات أو إقالات، زادت على 40 منصباً، من الأمن إلى التربية، ويبدو أنها مستمرة، ولا يبدو أنها تسير في سياق مخطط له، وباستثناء جزئيات، فهي متناقضة، وتوحي بفوضى غير خلاقة، وغير منظمة، وفي تلك الأجواء تنتشر الانتهازية، أكثر مما هي منتشرة، وتتكسر المجاديف.
إلا أن ما هو ثابت لم يتغير هو محور الهيمنة على موازين القوى في المجتمع.