كانت جائحة «كوفيد 19» سبباً في زيادة مستويات الدَّين في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل إلى أعلى مستوياتها في خمسين عاماً، مع ارتفاع معدلات التضخم، وارتفاع أسعار الفائدة، وتفاقم أعباء خدمة الديون بسبب تزايد قوة الدولار الأميركي، وتتوالى الآن فصول الأزمة في العديد من بلدان العالم النامي.
حددت مجلة الإيكونوميست 53 دولة معرضة للخطر، إما تخلفت عن سداد ديونها أو تقترب بشدة من الانزلاق إلى ضائقة الدَّين، ورغم أن أغلب هذه البلدان بين الأفقر في العالم، فإن عدداً متنامياً من الاقتصادات المتوسطة الدخل تواجه أيضاً مشاكل ديون حادة، فوفقاً لتقارير البنك الدولي، فإن نحو 60 في المئة من كل البلدان الناشئة والنامية أصبحت مدينة بدرجة عالية من المخاطر.
لقياس النطاق الكامل لهذه الأزمة وتحديد الحلول الممكنة، يتعين علينا أن ننظر أولاً في الخصائص الرئيسة التي تتسم بها هذه البلدان والديون المستحقة على القطاع العام في كل منها، وتمثل البلدان الثلاثة والخمسون المثقلة بالديون التي حددتها مجلة الإيكونوميست 18 في المئة من سكان العالم أكثر من 1.4 مليار نسمة ولكن 5 في المئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
وكنسبة مئوية في مناطق مختلفة من العالَم النامي تبلغ نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي 55 في المئة بمنطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا، وتتجاوز 70 في المئة في الاقتصادات الناشئة والنامية في آسيا وأميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي.
ويأتي عبء الديون المرتفعة هذا نتيجة مباشرة للجائحة، وعلى الرغم من انخفاض مستويات الدين في كل المناطق باستثناء آسيا منذ عام 2020، فإنها لا تزال أعلى مما كانت عليه في عام 2019، وعلاوة على ذلك، تسبب إحكام الأوضاع المالية في زيادة الأمور صعوبة في البلدان النامية، التي تكافح بالفعل للوصول إلى التمويل لإعادة هيكلة ديونها الحالية وتجنب الإفلاس.
ويشكل انخفاض قيمة العملة خطراً آخر، فقد سجلت عملات العديد من الاقتصادات النامية والناشئة انخفاضاً حاداً مقابل الدولار الأميركي، مما أدى إلى ارتفاع تكاليف خدمة الديون المقومة بالدولار، ورغم أن بعض حكومات الأسواق الناشئة طورت أسواق ديون سيادية محلية وأصدرت عِدة جهات مقرضة متعددة الأطراف قروضاً بالعملات المحلية، فإن 16 في المئة من الديون العامة المستحقة على الأسواق الناشئة مقومة بعملات أجنبية، وتتجلى هذه المشكلة بشكل خاص في أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي وفي إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث من المتوقع أن تبلغ نسبة الدين الخارجي إلى الصادرات 167 و147 في المئة، على التوالي، في عام 2023.
يستطيع الدائنون، بل يتعين عليهم، أن يضطلعوا بدور حاسم في تخفيف أعباء الدين عن البلدان المنخفضة الدخل، إذ تقدم بنوك التنمية المتعددة الأطراف عادة قروضاً طويلة الأجل بأسعار فائدة ميسرة، وهي ميزة تنافسية في البيئة الحالية، وخصوصاً للبلدان الأكثر فقراً، وفي البلدان المنخفضة الدخل، كانت نسبة الديون المتعددة الأطراف إلى إجمالي الدين الخارجي نحو 36.5 في المئة على مدار العقد الماضي، مقارنة بنحو 8 في المئة بالبلدان المتوسطة الدخل، التي تعتمد بشكل كبير على تمويل أكثر تكلفة من القطاع الخاص.
قبل جائحة «كوفيد 19»، كان نادي باريس للدائنين السياديين الهيئة الرئيسة التي تقدم تخفيف أعباء الديون عن البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، ولكن في الاستجابة لأزمة السيولة الناجمة عن الجائحة، قدمت مجموعة العشرين ونادي باريس مبادرة تعليق خدمة الديون، وبدعم من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، علقت مبادرة تعليق خدمة الديون 12.9 مليار دولار من المدفوعات المستحقة على 48 دولة منخفضة الدخل خلال الفترة من مايو 2020 إلى ديسمبر 2021، ومع ذلك، كان ذلك مجرد حل مؤقت، فلم تخفض مبادرة تعليق خدمة الديون مستويات الدين كما أنها اجتذبت أقل قدر من المشاركة من جانب الدائنين من القطاع الخاص، ومنذ انتهاء العمل بها في ديسمبر 2021، أصبح الوصول إلى الأسواق المالية مقيداً، والآن بات نحو نصف الدول الثلاث والسبعين المؤهلة عُرضة لخطر ضائقة الدين.
في نهاية عام 2020، أقرت مجموعة العشرين ونادي باريس الإطار المشترك لمعالجات الديون، والذي يهدف إلى تنسيق وتقديم تخفيف أعباء الديون للبلدان المؤهلة للاستفادة من مبادرة تعليق خدمة الديون، لكن ثلاث دول فقط- تشاد، وإثيوبيا، وزامبيا- تقدمت بطلبات حتى الآن، وفي وقت سابق من هذا العام، قَدَّمَ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي خريطة طريق لتحسين عمل البرنامج، والتي تضمنت أربع توصيات، جدول زمني واضح، وتعليق سداد الديون أثناء المفاوضات، وإنشاء عمليات وقواعد واضحة، وتوسيع متطلبات الأهلية.
لكن العديد من البلدان التي تحتاج إلى تخفيف فوري للديون ليست بين تلك المؤهلة لمبادرة تعليق خدمة الديون، فقد تخلفت عن سداد ديونها بالفعل بعض البلدان المتوسطة الدخل مثل لبنان، وسريلانكا، وسورينام، وتواجه بلدان أخرى، بما في ذلك مِصر، والصين، وباكستان، وتونس، ضائقة ديون شديدة، وقد أعادت الأرجنتين والإكوادور بالفعل هيكلة ديونهما الخارجية عام 2020، باستخدام آليات تقليدية ودعم ضمني من صندوق النقد الدولي.
لكن من الواضح أن الأمر يتطلب إصلاحات أكثر طموحاً، ففي أكتوبر 2020، شدد صندوق النقد الدولي على ضرورة تحسين آليته الحالية لإعادة هيكلة الديون- ما يسمى «النهج التعاقدي»- والتي أعيد تصميمها آخر مرة في عام 2014، ومن ناحية أخرى، سلط صندوق النقد الدولي الضوء على المشكلات المتنامية المرتبطة بالتزامات الدين غير المرتبطة بسندات والتزامات الدين المكفولة، وأشار إلى الافتقار إلى الشفافية في هذا المجال، لكن هذه الترتيبات التعاقدية أيضاً غير كافية، لأن نصف الديون السيادية المستحقة على البلدان الناشئة والنامية تفتقر إلى شروط العمل الجماعي المعزز، ويسمح هذا بإعادة التفاوض على عِدة عقود دين في ذات الوقت.
يتمثل نهج آخر محتمل في إنشاء فريق مستقل لمفاوضات الديون السيادية يعمل داخل الأمم المتحدة، فقد حاول صندوق النقد الدولي بالفعل إنشاء هيئة مماثلة عند بداية هذا القرن، لكن الفكرة قوبلت بالرفض، ثم اقتُرِحَت مرة أخرى من مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية أثناء الجائحة.
على الرغم من كون مثل هذا التعهد ضرورياً (أعربت عن دعمي له سابقاً)، فإن الأمر سيستغرق وقتاً طويلاً قبل أن يُحدِث أي فارق في معالجة أزمة الديون الحالية، ومع ذلك يجب أن يسمح أي إصلاح في المستقبل بتوفير قدر أعظم من التمويل المتعدد الأطراف وإنشاء آلية مؤقتة لتسهيل عمليات إعادة التفاوض على الديون.
يجب أن يكون أي إصدار كبير لحقوق السحب الخاصة (الأصل الاحتياطي الذي يصدره صندوق النقد الدولي)، مثل الإصدار الذي شهدناه أثناء الجائحة، جزءاً من الحل، وبقدر ما تعود مشكلة العديد من الاقتصادات المتوسطة الدخل إلى عدم القدرة على الوصول إلى التمويل لا الإفلاس، فمن الأهمية بمكان استكمال هذه الإصدارات بتمويل وفير طويل الأجل وبأسعار فائدة منخفضة من هيئات الإقراض المتعددة الأطراف.
أما عن نماذج إعادة هيكلة الديون الفَعّالة، فيتبادر إلى الذهن ثلاثة أمثلة تاريخية، فأثناء أزمة أميركا اللاتينية في ثمانينيات القرن العشرين، أعادت البلدان النامية هيكلة ديونها من خلال «سندات برادي» التي دعمتها الولايات المتحدة، وفي 1996، أطلق صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون، التي سمحت بإلغاء الديون المستحقة لدائنين متعددي الأطراف في مقابل إصلاحات اقتصادية. ثم أتت المبادرة المتعددة الأطراف لتخفيف الديون، التي أطلقت في 2006، لتأخذ هذا النهج خطوة أخرى إلى الأمام، إذ ألغت ديون البلدان المؤهلة لصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وصندوق التنمية الإفريقي.
لكن أفضل طريقة لضمان حصول البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل على الإغاثة التي تحتاج إليها تتمثل بقيام البنك الدولي أو بنوك التنمية الإقليمية بإنشاء مرفق ائتماني تستطيع الدول المدينة المتعثرة الاستفادة منه طواعية، وسيطبق هذا المرفق على كل الديون الثنائية والتجارية بشروط متساوية، وأثناء إعادة التفاوض على الديون، ستكون خاضعة لمراقبة صارمة من البنك المتعدد الأطراف الذي يدير العملية، علاوة على ذلك، تستطيع المؤسسات المالية الدولية أن تعمل على تسهيل اتفاقيات إعادة هيكلة الديون من خلال تقديم ائتمان تكميلي للبلدان المعنية.
ولكن، نظراً لاختلاف مستوى وطبيعة الديون بدرجة كبيرة من دولة إلى أخرى، يتعين على المؤسسات الدولية أن تتخذ القرارات بشأن الإعفاء على أساس كل حالة على حِدة، وينبغي استكمال هذا بمزيد من التمويل من بنوك التنمية المتعددة الأطراف ليس للبلدان التي تطلب تخفيف الديون فقط، بل لتلك التي لا تطلبها أيضاً، وبطبيعة الحال ينبغي لكل البلدان النامية تنفيذ إصلاحات بنيوية ومالية لضمان استدامة الديون في الأمد البعيد.
* خوسيه أنطونيو أوكامبو
وزير المالية والائتمان العام في كولومبيا.