العام الذي انقسم فيه العالَم
يبدو أن أي محاولة لاستشراف مستقبل العلاقات الصينية - الأميركية عام 2023 لا بدّ أن تكشف عن مشهد من انعدام اليقين، ولا يقتصر الأمر على الهدف الاستراتيجي الأعظم المتمثل بالحفاظ على السلام عبر مضيق تايوان، بل هناك أيضاً علاقات الصين المشحونة غالباً مع قوى أخرى مثل اليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، والهند، وأوروبا، إضافة إلى روابطها مع أصدقاء مشاكسين مثل روسيا، فضلاً عن ذلك، هناك التساؤل حول ما إذا كان الاقتصاد الصيني سيهبط بأمان أو سينهار في العام المقبل.
يوضح تقرير العمل الذي قدّمه الرئيس شي جينبينغ في المؤتمر الوطني ال 20 للحزب الشيوعي الصيني في أكتوبر، أن صناع السياسات الاقتصادية الصينية سيؤكدون أهمية قطاع الشركات المملوكة للدولة، وسيطرة الحزب، واكتفاء الاقتصاد الوطني ذاتياً، فضلاً عن التأكيد الجديد على توزيع الثروة عام 2023 وما بعده، وينطوي هذا على تصحيح كبير للسياسات بعيداً عن التأكيد على قوى السوق، والقطاع الخاص، والتكامل الاقتصادي الدولي الكامل الذي رأيناه في عقود سابقة في عهد دنغ شياو بينغ، وجيانغ زيمين، وهو جينتاو.
مع ذلك، يظل السؤال الرئيسي عام 2023 هو، إلى أي مدى قد يستمر هذا الإصرار الأيديولوجي على تغليب الدولة على السوق في عرقلة الأداء الاقتصادي العام بالصين؟
ويبدو من المرجح أن تؤدي إعادة التأكيد على دور الدولة في قطاع التكنولوجيا (على حساب عمالقة التكنولوجيا السابقين مثل Alibaba، وTencent، وJD، وDidi، وByteDance) إلى منع الإبداع التكنولوجي وتطبيقاته التجارية من البقاء كمحرك للنمو القوي، كما كان في الماضي، علاوة على ذلك، من المرجح أيضاً أن يفرض تقليص المديونية المستمر في قطاع العقارات الصيني عبئاً ثقيلاً على النمو الاقتصادي.
وإلى جانب هذه العوامل الأيديولوجية، تعاني الصين وضعاً ديموغرافياً غير مواتٍ، فضلاً عن استمرار حالة انعدام اليقين بشأن مستقبل نظام إدارة «كوفيد 19» المحلي في الصين، وكل هذا يشكل نَسَقاً مهولاً من الرياح الاقتصادية المعاكسة، لذا، يبدو أن صناع السياسات في الصين يرون أن أفضل الوسائل وأكثرها أماناً لدفع النمو الصيني مرة أخرى نحو الهدف 6 في المئة عام 2023 يكمن في التجربة الناجحة بالماضي، صافي الصادرات القوي والاستثمار من جانب الدولة في البنية الأساسية.
ولكن ماذا عن الجهود التي يبذلها النظام لتعزيز الاستهلاك المحلي الخاص؟... كان المفترض أن يعمل هذا كمحرك رئيس للتنمية الاقتصادية بالصين في الأمد البعيد، حيث بدأ صناع السياسات قبل 10 سنوات السعي إلى تصميم نموذج جديد للنمو لا يعتمد على الأجور المنخفضة، والتصنيع الكثيف العمالة بغرض التصدير، والمستويات المرتفعة من استثمارات الدولة في البنية الأساسية، وفي هذا الصدد، عندما ندقق بعناية في تقرير عمل مؤتمر الحزب، يتبيّن لنا أن الاختبار سيكون ما إذا كان صناع السياسات بالصين يعتزمون الاستمرار في ملاحقة الإصلاح الضريبي وتدابير الضمان الاجتماعي، مثل إعانات دعم الأطفال ورعاية المسنين، لرفع الدخل المتاح للأسر الصينية وتعزيز الاستهلاك الكلي، أم لا.
وفضلاً عن هذه التدابير، سيكون من المهم تحليل تأثير أجندة «الرخاء المشترك» الجديدة في الصين، إضافة إلى اللغة الجديدة التي تبناها تقرير عمل المؤتمر حول الضوابط التنظيمية الجديدة التي تحكم تراكم الثروة، لمعرفة ما إذا كان هذا سيؤدي إلى قدر أكبر من إعادة توزيع الثروة لمصلحة الأسر المتوسطة، ولكن من منظور اقتصادي، يشكّل هذا أهمية بالغة في تحديد ما إذا كان الاستهلاك المحلي الخاص سيعوض عن نقاط الضعف الناجمة عن التركيز على الأيديولوجية، وعلوم مرض فيروس كورونا التي نشأت خلال عام 2022.
وكان من المرجح أن يُفضي اجتماع شي جينبينغ مع الرئيس الأميركي جو بايدن في إطار قمة مجموعة ال 20 في بالي خلال نوفمبر الماضي إلى خلق الفرصة لتثبيت استقرار العلاقات الثنائية، وإن كان هذا لا ينبغي له أن يعادل جهداً شاملاً لتطبيع العلاقات، ومن الناحية التكتيكية، يبدو أن كلاً من الجانبين خلُص إلى أن الأمر يستحق العمل على إيجاد الطرق والسبل اللازمة لاحتواء الانقسام الدبلوماسي بينهما في الأمد القريب، دون السعي إلى إصلاحه، فضلاً عن ذلك، يبدو أن نوايا الصين الاستراتيجية في الأمدين المتوسط والبعيد فيما يتصل بتايوان تظل ثابتة دون أي تغيّر.
وإذا كان لنا أن نستخلص أي شيء في هذا الصدد، فقد تشير القراءة المتأنية للغة المستخدمة في عرض المعلومات من جانب المسؤولين الصينيين بشأن القمة بين بايدن وشي إلى تصلّب موقف الصين بشأن تايوان، فلأول مرة يشير شي إلى تايوان على أنها «خط أحمر لا يجوز تخطيه» في العلاقات الأميركية - الصينية، علاوة على ذلك، يشير هذا إلى موقف الولايات المتحدة والصين بشأن تايوان باعتباره «الأساس للعلاقة السياسية بين البلدين»، ولا يوحي أي من الموقفين بظهور أيّ قدر من المرونة التكتيكية من جانب الصين بشأن هذه المسألة الأساسية.
ولكن على الرغم من هذا التشدد النسبي، تحتوي قراءات القمة على لغة جديدة من الجانبين الصيني والأميركي حول إمكانية إيجاد آلية استقرار جديدة في الأمد القريب إلى المتوسط، على سبيل المثال، أشار شي جينبينغ إلى ضرورة إيجاد «سبل حماية» جديدة للعلاقة الثنائية من أجل تجنّب الأزمات والصراع، واستخدم شي لغة جديدة أيضاً فيما يتصل بالحاجة إلى «شبكة أمان في المجال الأمني» للتخفيف من هذه المخاطر بدرجة أكبر، إضافة إلى هاتين الصيغتين اللغويتين الجديدتين، أصدر شي تفويضاً لكبار المسؤولين «بالحفاظ على الاتصالات الاستراتيجية» بين الجانبين، بما في ذلك إعادة تشكيل مجموعة العمل الأميركية - الصينية، وقد ينتج عن هذا قيام وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكين بزيارة مقترحة لبكين خلال الفترة من فبراير إلى مارس 2023.
والواقع أن آليات من هذا القبيل ليست موضع ترحيب أقل، لكونها محدودة الغرض، فسيحدد محتواها (أو افتقارها إلى المحتوى) ما إذا كان بوسع الجانبين تحقيق بعض التخفيف المستدام للتوترات بينهما.
ومن الواضح أن حالة العلاقة الثنائية الأكثر أهمية في العالم ستؤثر على بلدان أخرى خلال عام 2023، وسيكون التأثير أشد وضوحاً في أوروبا، حيث ستسعى الولايات المتحدة إلى مضاعفة جهودها لتأمين الدعم الأوروبي لحظر تصدير أشباه الموصلات الذي أعلنته من جانب واحد في أكتوبر، وتشكّل القيود الأخيرة أهمية بالغة، ذلك أن إعلانها من دون دعم أوروبي يشير إلى مستوى المقاومة الأوروبية، وفي بعض الحالات العداء تجاه هذه المحاولة الأميركية المباشرة لتحقيق فصل تكنولوجي جوهري مع الصين.
وينبغي لقادة أوروبا أن يستعدوا عام 2023 لمزيد من الجهود الأميركية لجلب الأوروبيين إلى جانب النظام الجديد، سيتذكر الجانبان المناوشات الوحشية في السنوات السابقة بشأن فرض الحظر التكنولوجي على شركة هواوي واستخدام معداتها الخاصة بشبكات الجيل الخامس من الاتصالات (5G) في مختلف أنحاء أوروبا، وقد خلصت الولايات المتحدة إلى أن جهودها كوفئت بمستوى مرتفع من الامتثال الأوروبي. ومن المحتمل أن تحاول تحقيق ذات النتيجة بالاستعانة بهذه الجولة الجديدة من حظر التصدير.
كما سيشهد العام المقبل جدالاً جديداً حول علاقات الهند الاقتصادية مع الولايات المتحدة، وسيكون الدعم الهندي لجزء كبير من الإطار الاقتصادي لمنطقة الهادئ- الهندي، الذي أطلقته الولايات المتحدة عام 2022، موضع اختبار فيما يتصل بمدى استعداد كلا الجانبين لملاحقة علاقات اقتصادية أعمق، وخلصت الهند بوضوح إلى أن إقامة علاقة سياسية أو اقتصادية طبيعية مع الصين أمر بعيد المنال، بسبب التأثير المترتب على التوغلات الصينية المتكررة على طول الحدود الصينية - الهندية خلال رئاسة شي جينبينغ، والآن، ينفتح الاقتصاد الهندي بالفعل على الغرب بدرجة أكبر، مع تفاوض الهند على اتفاقيات تجارة حرة بالفعل مع أستراليا، وكندا، والمملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي، مما يترك الباب مفتوحاً أمام احتمال العودة إلى المشاركة الاقتصادية مع الولايات المتحدة ذاتها (الاعتماد بدرجة كبيرة على تضاؤل مشاعر الحماية في كل من البلدين).
أما عن تأثير العلاقات الأميركية - الصينية على جنوب شرق آسيا، وعلى آسيا في عموم الأمر، فسيظل التشعّب الجيوسياسي والجغرافي الاقتصادي المتزايد يتردد صداه في مختلف أنحاء المنطقة، وسيخلق هذا حالة من عدم الارتياح المستمر في كوريا الجنوبية، وسيكون أقل إزعاجاً لليابان بدرجة كبيرة، وإن كان سيستمر في فرض الضغوط على أستراليا، وبعيداً عن هذه الدول الثلاث الحليفة للولايات المتحدة أمنياً، سيكون البحث مستمراً عن الاستقلالية الجيوسياسية، ويتعيّن على بلدان رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) ال 10 أن تحافظ على قدر من التساوي في المسافة بينها وبين الولايات المتحدة والصين، وهذا من شأنه أن يعمل على تعظيم مصالحها السياسية والأمنية مع الأميركيين في أغلب الحالات، في حين يعمل أيضاً على تعظيم مصالحها التجارية والاستثمارية مع الصين، ويتبقى لنا أن نرى ما إذا كان بوسع «آسيان» إيجاد التوازن المستدام.
لكل هذا، يلوح عام 2023 في الأفق باعتباره عاماً ديناميكياً آخر في الاقتصاد السياسي المحلي في الصين، وعلاقاتها بالولايات المتحدة، وتأثير تلك العلاقة على بلدان أخرى، وسيظل اقتصاد بكين يواجه تحدي النمو في الأرجح، وقد تستقر علاقتها مع واشنطن عندما يتعلق الأمر بالقيم الصافية (ما لم يقع حدث خارجي مزعزع للاستقرار، خصوصاً إذا كان ناشئاً عن العملية السياسية المحلية في تايوان أثناء الفترة السابقة للانتخابات الرئاسية المقبلة بالجزيرة عام 2024)، وسيستمر ظهور التوترات الناشئة عن العلاقة بين الولايات المتحدة والصين في مختلف أنحاء أوروبا وآسيا، على مدار العام، وما بعده على نحو يكاد يكون مؤكداً.
* كيفين رود رئيس وزراء أستراليا مرّتين، ورئيس جمعية آسيا، ومؤلف كتاب «الحرب التي يمكن اجتنابها... مخاطر الصراع الكارثي بين الولايات المتحدة والصين في عهد شي جينبينغ».