الدبلوماسية الثقافية الصينية أساس لبناء علاقات أكثر قوة
إن التغيرات والتحولات العميقة التي حدثت نتيجة التطور التكنولوجي الذي عرفته وسائل الاتصال والتواصل على المستوى الكمي والنوعي غيرت من طبيعة التفاعلات داخل المجتمع الدولي، وأفرزت نوعا من التنوع في اهتمامات ومجالات الدبلوماسية، مما أدى إلى صياغة دبلوماسية معاصرة ممتدة إلى ميادين أكثر تأثيرا مثل، (الاقتصاد، الثقافة، الإعلام، البيئة، ... إلخ).
ومن زاوية أخرى، فإن أبعاد الدبلوماسية تبقى كثيرة ومتعددة من أجل إقامة علاقات ودية ومستقرة بين مكونات المجتمع الدولي، غير أن دور وموقع الدبلوماسية ذات البعد الثقافي غدت أداة ضرورية للتخفيف من حدة التوترات وتحويل الاختلافات إلى توافقات، وهكذا، يمكن توظيف الدبلوماسية الثقافية للمساعدة في بناء السلام العالمي وخلق نوع من الديمومة في العلاقات بين الدول.
ونشير في هذا السياق، إلى أن الكثير من الوثائق الرسمية الصينية أكدت على أهمية الثقافة والعامل الثقافي في كسب النفوذ في ظل عالم تشتبك فيه الثقافة بالتطورات الاقتصادية والتحولات السياسية، خاصة التقرير السياسي للمؤتمر السادس عشر للحزب الشيوعي الصيني سنة 2012، إضافة إلى ذلك تبنت الصين منذ سنة 1988 استراتيجية ثقافية، اعتبرت فيها الثقافة أداة دبلوماسية استمدت أُسسها من الثقافة الكونفوشوسية والثقافة التقليدية والسياسة الواقعية، مما يدل على أهمية المكانة التي تحتلها الأبعاد الثقافية في السباق من أجل النفوذ.
ومع انتشار المصالح الاقتصادية والسياسية الحيوية الصينية في العالم، تبنت الصين توجها يهدف إلى تعزيز قوتها الناعمة، من خلال إصلاح نظامها الثقافي وتنمية الصناعة الثقافية، وقد خصصت لذلك كل إمكاناتها المادية والبشرية واللوجيستيكية، حيث تم إضفاء الطابع المؤسساتي على استراتيجيتها الثقافية، في محاولة للانتشار على نطاق واسع من خلال نسج شبكة ثقافية عبر العالم للترويج لحضارتها، عبر إنشاء المراكز الثقافية الصينية بالتعاون مع الجامعات أو المنظمات في البلدان المستقبلة، إضافة إلى ذلك تضاعفت المبادرات إلى أن أصبحت الثقافة ممارسة أساسية للقوة الناعمة الصينية، بهدف تسهيل المعرفة وفهم الأجانب للصين وتجديد الصورة من أجل خلق مناخ يفضي إلى تطورها ونهوضها بقوة.
وهكذا، نجد أن الدبلوماسية الثقافية الصينية تسعى إلى أن تكون مصدر قوة ناعمة، من خلال الدعوة لتعزيز التنمية المشتركة واحترام وحدة التراب الوطني وتبني الحلول السلمية للنزاعات وتطبيق قواعد القانون الدولي، بالإضافة إلى معارضة النظام الدولي القائم ومحاولة إرساء نظام متعدد الأقطاب، ومساندة احترام ثقافات الأمم الأخرى، مما جعل الصين تساهم في إعادة تشكيل الخريطة الثقافية للنظام الدولي وإحداث نوع من التوازنات الدولية الجديدة.
ولا يفوتنا القول في هذا السياق، إن الحديث عن القوة الناعمة لم يكن وليد اللحظة، أو جاء كمصطلح في العصر الحديث بل هو متجذر في التاريخ، وتحديدا التاريخ الصيني، فقد تحدث الفيلسوف الصيني «لاوتسو» عن القوة اللينة أو المرنة أو الناعمة عندما وصف الماء موضحا أن القوة تكمن في اللين والمرونة، فهو يرى ألا شيء أكثر مرونة ونعومة من الماء، فهو القوة التي تستمد منها النباتات والحيوانات شكلها ونموها، وبالتالي فالقوة الناعمة عند الصينين، تشمل الثقافة العامة والعلاقات الدبلوماسية والمساعدات الاقتصادية والاستثمارات والمشاركة في المنظمات الدولية.
إلى جانب ذلك، تتميز الثقافة الصينية بتنوع هوياتي وتعدد ثقافي كبير، وهي ظاهرة اجتماعية وتاريخية لا يكاد مجتمع من المجتمعات يخلو منها، غير أن ما يميز دوائر هذا التنوع والتعدد في المجتمع الصيني هو ذلك الاختلاف في الإثنيات والقوميات والأعراق التي تصل إلى نحو 56 قومية، وأيضا بسبب اتساع المساحة والاختلافات المناطقية، الأمر الذي ساهم في تنوع اللغات واللهجات المستعملة من منطقة إلى أخرى، إضافة إلى وجود العديد من المعتقدات والديانات والفلسفات (الكونفوشيوسية والطاوية والبوذية)، التي زخرفت المشهد الثقافي والحضاري للصين.
ومن هنا نستطيع القول إن هذه الفسيفساء الثقافية، هي سجل مفتوح ومتطور يمنح إشعاعا لتطور المجتمع وازدهاره في ظل الثراء والتمازج الثقافي، يجعل من الصين كائنا استثنائيا لما تملكه من خصائص فريدة بعيدا عن حالات الصراع.
ومن هذا المنطلق، عملت الصين على تبني سياسات وطنية تسعى إلى ترسيخ الخصوصيات الحضارية والتاريخية الوطنية في إطار التعدد والتعايش بين القوميات المختلفة، المبنية على الثقافة المشتركة المستمدة من القيم الروحية والمادية، مما كان له عظيم الأثر في ترسيخ التعايش السلمي وبناء التماسك داخل المجتمع الصيني بعد معاناة مع اضطرابات اجتماعية وسياسية شهدتها الصين خلال فترات تاريخية معينة.
وإدراكا من صناع القرار السياسي الصيني، بالأهمية المتزايدة للثقافة التي أصبحت معيارا جديدا تعرف من خلاله توجهات السياسة الخارجية للدولة، فإن العامل الثقافي يظل حاضرا باستمرار كخلفية للدبلوماسية الصينية ولطبيعة التوجه السياسي للصين، بهدف خلق جسور من التواصل الحضاري والثقافي، انسجاما مع استراتيجيتها القائمة على مبدأ القوة الناعمة.
ومن جهة أخرى، فخصوصيات الصين الأيديولوجية والسياسية، ونموها الاقتصادي ورغبتها في أن تصبح قوة عسكرية يثير نوعا من التناقض على طريق التنمية السلمية، إضافة إلى الانتقادات الكثيرة الموجهة للصين حول موضوعات الدمقرطة وحرية التعبير وحقوق الإنسان، الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان على الصين بناء صورة إيجابية وسليمة.
في الواقع، وعلى الرغم من الآثار الإيجابية التي تم الحصول عليها بتبني تعزيز الثقافة كمدخل أساسي لتحسين صورة الصين الخارجية وجذب شراكات مختلفة، فإن العديد من الباحثين والمفكرين وعلى رأسهم «جوزيف ناي» يرى أن الصين لا تتوافر على صناعات ثقافية مهمة وتفتقر إلى الكثير من المؤسسات التي تولد القوة الناعمة.
هذا، وتعاني الصين سياسيا من عدم المساواة ونقص الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون، ولعل من العوامل الرئيسة التي تحد من القوة الناعمة الصينية القومية، إحجام الصين عن الاستفادة الكاملة من وجود مجتمع مدني غير خاضع للرقابة.
وبالتالي، تساهم كل تكل العوامل في خلق تحديات وعقبات أمام الدبلوماسية الصينية، مما ينتج عنه جو من عدم الثقة نتيجة الاختلافات الأيديولوجية، أو عدم الثقة في النظام السياسي الصيني والخوف من صعودها الاقتصادي، الأمر الذي يجعل من الخطوات المتخذة ذات فعالية مختلطة في سبيل تعزيز الثقافة، الجزء الأساسي في القوة الناعمة الصينية لمواجهة القيود والعقبات المطروحة.
* باحثة في العلاقات الدولية - المغرب.