القرقني: لا أومن بالنص الأصلي للترجمة ولا بشفافية المترجم
أكد في حواره مع الجريدة● أن قصصه تشبه جنونه وطريقته في اللّعب بأشياء العالم
وقال القرقني، في حواره مع «الجريدة».، إنه عندما يترجم، لا يكون واحداً، بل هو كثرة مختلفة متنوعة وفق ما يترجمه، فيمتلك قلوباً بعدد من يترجم لهم، والنص لديه كالحياة مفتوحة على إمكانات كثيرة، محافظاً في الوقت نفسه على «الموروث الإنساني»، عبر أدوات فنية معاصرة، تجعل من النص لوحة فنية متحركة... وفيما يلي التفاصيل:
• صدرت لك أخيراً مجموعة قصصية بعنوان «مسيح القمر الأزرق»، نود إلقاء الضوء على أهم ما تتضمنه من أثر سردي.
- «مسيحُ القمر الأزرق» يمكن تسميته كتابي القصصي، لسبب انعقاد القصص كلها على مناخ عام يمثل وَحدة جامعة، هذه الوحدة متعلقة بنوع من الواقعية السحرية أو العجائبية المشدودة إلى أحداث الواقع، والمنفلتة عنها في ذاته، وكي لا أشرح كتابتي أو أضطلع بتفسيرها، حاولتُ أن أكتب قصصا تُشبهني وتشبهُ جنوني وطريقتي في اللعب بأشياء العالم.
• قمت بترجمة رواية «السنة المفقودة» لبيدرو ميرال، عن دار ميسكيلياني للنشر بتونس، ورواية ميخائيل بولغاكوف عن دار الفراشة للنشر والتوزيع بالكويت، ما هي منطلقاتك في الترجمة؟
- انطلق مشواري مع الترجمة باعتبارها امتدادا للشغف بالشعر، والرغبة على الاطلاع على أكثر التجارب الممكنة في شبابي الأول. ثم اتجهت إلى ترجمة بعض المقاطع والقصائد وأنشرها في المجلات، وأقرؤها على الأصدقاء في نوادي الأدب وأمسيات الشعر، إلى أن تحول الشغف بالترجمة في حد ذاته إلى أفق إبداعي جميل أتغذى منه في تجربتي الأدبية دون أن أعتبره خارجاً عنها. فالترجمة بالنسبة إلي كتابةٌ لا تقل عن أي كتابة أخرى. وما يقرؤه الناس من كتب أترجمها إنما هو نصوص تقع في منزلة بيني ومؤلفيها في ألسنتهم الخاصة.
وجودي ملموس في نص الترجمة وأتوخّى الدقة فيما أكتب
مشاكل الترجمة في العالم العربي كثيرة، رغم كل المكاسب التي تم تحصيلها بفضل بعض الناشرين المميزين والمؤسسات القليلة المهمة، ومع ذلك، نحن في حاجة إلى تغليب الجودة فيما يتعلق باختيار المترجمين وإنشاء تصوّرات مشتركة واستراتيجية، حتى تفضي بنا الترجمة إلى بعض ضيافة أصيلة لأدب الشعوب الأخرى وفكرها وعلومها، وإلى جعل هذه الضيافة نشاطا فعالا يفتح آفاقا في بيتنا اللساني الثقافي المشترك.
• تتناول كتاباتك أحداثا لها علاقة مباشرة بالواقع والتحولات السياسية والاجتماعية، هل اختيارك للموضوع ينبع من الواقع المحيط والتزامك الأخلاقي؟
- لا شك في أنني متفّق مع الرأي القائل بدور «الكاتب الأخلاقي» في قراءة ما تخضع له الشعوب من الهيمنات، لكنّ المسألة تحدث معي على نحو مختلف.
إنني أفتح حواسي على ما يُحيط بي من أحداث ووقائع، وما إلى ذلك. ومن ثم تبدأ صياغة عوالم لها صلة بالواقع طبعا، لكنّها لا تطابقه ولا تحاكيه وإنما تُشير إليه، وعلى نحو متعدد يتيح لكل قارئ أن يبني معي دلالة النصوص وآفاقها.
يحدث معي هذا الأمر في السرد خصوصاً، أما في الشعر، فالتعقيدُ أشدُ، ولعبةُ اختراع الكتابة والذات مفتوحة على أكثر من مجهول.
• ما هي الأشكاليات التي تعترض المترجم؟ وما علاقته بدور النشر؟
- المترجم ليس واحدا، بل هو كثرة مختلفة، ويؤسفني أن أقول إن أغلب المترجمين غير مؤهلين فعلاً لهذا النمط المخصوص من الكتابة الذي يستدعي كفاءات عديدة، من بينها حسن القراءة (النقدية) وحسّ الباحث، وملكة الكتابة، ورهانات المفكر.
إذا كان المترجم إذن جديراً بصفته، فستعترضه إشكالات كثيرة، من بين غيرها أذكر اختلاف رهاناته الإبداعية والفكرية عن رهانات معظم دور النشر والمؤسسات. أو فلأقل إن معظم مشكلاته لن تختلف عمّا يواجه أي كاتب صاحب مشروع حقيقي في الكتابة. وعلى أية حال، هناك زبدٌ كثير في عالَم الترجمة، ربما لأنها نشاط ربحي أكثر من غيرها من أنشطة التأليف. ولكن، نحتاج إلى ذهاب الزبد حتى نؤسس لما يبقى.
• لماذا تراجعت القصة القصيرة أمام الحضور القوي للرواية وصارت اليوم «ديوان العرب» مع التحول الكبير إلى كتابة الرواية في العالم العربي؟
- القصة القصيرة في منزلة بين منزلتين، هما الشعر والرواية، وكلما اقترب عمل ما من الشعر قلت حظوظ رواجه في زمننا هذا. على أية حال، لا أعني بهذه العبارة الحط من قيمة الكتابة الروائية، لأن الروايات العظيمة مثل الشعر العظيم قليلة، وهي لا تقل في شيء عن الشعر، أما بالنسبة إلى السوق فله منطقه الذي يتركز حول الحشود والكثرة وأحكامها، والقيمة لديه مرتبطة دوما بما تصوت له الأغلبية التي لا تملك في معظم الأحيان أي صوت.
• برأيك لماذا يترجم العرب المناهج الغربية مع اجتهادات فردية تمليها شخصية كل باحث وثقافته؟ وكيف يشتغل مفهوم الهوية في خضم ذلك؟
- من الطبيعي أن يجتهد الباحثون المترجمون وفق رؤاهم، وإسنادا إلى مرجعياتهم ومشاريعهم، أعني أن يجتهدوا في نقل ما يرونه مهما ومفيدا لتطور المعرفة الإنسانية، ولكن ما لا يبدو طبيعيا ومقبولا أن يضرب معظمهم «خبط عشواء» وعلى نحو مستقل لا تنفتح فيه جهود بعضهم على بعض، ولا تؤسس فيه مشاريع مشتركة، تضمها مؤسسات، بعبارة أخرى نحتاج إلى سياسة للمعرفة يشترك فيها أكثر من عنصر، لأنه إذا لم تكن لديك سياسة فهذا يعني أنه ما من رهان.
• هل عكس الأدب المترجم لديك صورة واضحة عن ثقافة الآخر؟
- الترجمة تضيء الآخر في اللحظة ذاتها التي تضيء الذات، وبعبارة الذات، أعني ذات الكاتب (المترجم في ترسخها ضمن لسان) ثقافة، أما وضوح الصورة فهو مطلب بعيد المنال، لأن الآخر أيضا كثرة متعددة، ونحن نترجم في نهاية المطاف خطابا ما لا يمكنه أن يختزل منبته، وإنما يظل يشير إليه.
• ما المعايير المطلوبة لاختيار عمل قصد ترجمته؟
- بالنسبة لي أن يكون نصا مميزا (أن أحبه على المستوى الذاتي) ومن ثم أن يكون ذا خصوصية، تمثل رهانا بالنسبة إلي، لا لنقلها وإنما لخلقها من جديد في لساني الخاص.
• ما الجوهر أو الدرس الأساسي الذي تتوخى إبلاغه للقارئ، عبر ترجماتك؟
- لا درس أقدمه للقارئ قط، إنما أكتب في الترجمة أيضا، وقد لا يراني القارئ بسبب سيادة التصور العام عن المترجم الشفاف الذي يختفي، ويغيب ليفسح المجال إلى النص «الأصلي»، لكنني لا أؤمن بالنص الأصلي، ولا بشفافية المترجم، وهذا لا يعني أنني لا أتوخى الدقة (كان غيري ليحب استخدام مصطلحي الوفاء والأمانة) في الترجمة، بل إنني حريص عليها حرصا أزعم أنه ليس مطردا، ولهذا السبب لست مترجما شفافا، وجودي ملموس في نص الترجمة، لكن القارئ لا ينتبه إلى ذلك، فإذا فشلت في عملي رجمني بالكلام، وإذا وفقت فيه، أسند الفضل كله في ذلك إلى المؤلف الأول.
• ما مشاريعك المستقبلية؟
- أعد لنشر كتاب يوميات، وهي يوميات من نوع خاص سميتها يوميات الحداد، لكن العنوان الرئيسي للكتاب هو «هذا يعني أنك لن تأتي الليلة»، وهو بمنزلة جملة من الشذرات والنصوص والقصائد التي كتبتها حدادا على أبي، وكي أقاوم فاجعة فقده، وهناك مشاريع أخرى مؤجلة، من بينها مخطوط شذرات فلسفية بعنوان «نباح أسود»، ومخطوط شعري عنوانه «صلاة شجرة قبل أن تسقط».