مساعد، إنسان لا يكره في حياته مثلما يكره الإزعاج واقتحام هدوئه النفسي كانت الليلة ساكنة سكون الجزر النائمة وسط محيط تبددت أمواجه.. فجأة رن جرس هاتفه في الواحدة والنصف فجراً وما إن سمع كلمات المتصل الذي أجهش بالبكاء «تعال وأنجدني سئمت الحياة» حتى حل به الفزع وتناوشته الوساوس بين أنيابها وهو في طريقه إلى نجدة المستغيث به.. ومن هنا بدأت الحكاية أو على الأرجح ظهرت مشكلته إلى العلن.

لم يكن توقيت الاتصال عادياً وكذلك لم يكن المتصل فهو أخوه الأكبر شافي «صاحب الـ42 عاماً» وكلماته تؤكد أن كارثة ألمت به فعلى صوته تجاعيد يأس المهزوم ونبرته نبرة اليائس الذي لم يعد له أمل في الحياة.

هرع الأخ الأصغر إلى أخيه ودقات قلبه المتسارعة تسابق خطواته واشتدت به الهواجس أفكار تأخذه يمنة وأخرى ترميه يسرة تملكته الحيرة حتى أحس أن الـ20 دقيقة التي استغرقها في الوصول إلى منزل أخيه الذي يحبه ويحترمه 20 سنة ضوئية.

Ad


وهنا كانت المفاجأة حيث وجد الباب مفتوحاً وأخاه وحده ملقى على الأرض وسط ظلام دامس أحس بوصوله أشعل الضوء فانهار باكياً ليقول بصوت منهك «جد لي حلا أريد أن أعود إلى طبيعتي فحياتي لم تعد حياة».

جلس بجانبه عيناه حمراوان بدنه هزيل كأنه يشاهده لأول مرة سأله ماذا حل بك فرد «فقدت كل شيء زوجتي أبنائي وظيفتي أصدقائي كل شيء فهل هناك ما يمكن أن يعيد لي كل هذا دون أن يعلم أحد أنني أتعاطى مخدر الكبتاغون باستمرار».

«الكبتاغون»

«الكبتاغون» كلمة وقعت على مسامعه كالصاعقة وبات ريقه جافاً وأقعدته الصدمة عن التعليق فمن منا لا يعرف هذه الآفة المخدرة التي يؤدي الإدمان عليها إلى تلف الأعصاب والإصابة بالهلوسة والجنون وتدفع بمتعاطيها إلى القيام بأفعال عدوانية تؤذيه وتؤذي من حوله.

وبعد صمت لثوان صرخ شافي «ألن تساعدني هل ستتركني» وبدأ يرمي ما في جعبته من كلام «لم أكن هكذا ولم أكن أتخيل يوماً أن أصل إلى هذا الذي وصلت إليه.. فذات مساء بلا ملامح كنت حزيناً بائساً فأعطاني صديقي حبة الهلاك واصفاً إياها بحبة السعادة قال خذها مرة وسترى الفرق خذها واطمئن فلن تؤدي بك الى الإدمان ها أنا أمامك اتناولها كلما ساءت نفسيتي فهل ترى بي سوءاً».

ومضى شافي يقول «تناولتها لأول مرة وفعلا أزالت ما بي من حزن وكآبة حسبت أن الأمور ستسير على هذا النحو مر أسبوع فلم أشعر بسوء فعاد صديقي ومعه الحبة قال لي لنأخذها ونستمتع بالحياة جربتها فلم تمت ولم تفقد عقلك وفي لحظة ضعف تناولت الحبة الثانية ثم بات الأمر اعتيادياً كل أسبوع».

وأضاف «ومع مرور الوقت بت أتناولها يومياً ومن سعادة إلى عادة إلى ضيق إلى كآبة إلى انهيار نزلت دركاتها إلى أن هجرت عملي وزوجتي ونفر مني أبنائي ورحلوا عن البيت بعد أن لاحظوا عصبيتي الدائمة بت وحيداً لا مؤنس لي سوى الكبتاغون حتى صارت حركتي غير طبيعية وأصدقائي نفروا من حولي والأفكار السلبية تسيطر على عقلي أريد الخلاص يا أخي أريد أسرتي».

احتضنه مساعد فوجد أخاه كعصفور هزيل كسر جناحاه ورمت به الأنواء في بحر هائج فعاد، قائلاً «هل هناك من أمل في النجاة من هذه الحبة يا أخي» فجزم له بأن هناك بالتأكيد أملاً «إذا أردت الاقلاع عن تلك الآفة».

ابتسم شافي ابتسامة اليائس المهزوم قائلا «هل يمكنني أن اقلع عنها بعد سنوات من التعاطي» فكرر مساعد «نعم ممكن إذا أردت وإذا استمعت ونفذت كل ما أمرك به» فقال «أنا طوع أمرك أريد العودة إلى الحياة».

رحلة عذاب

بعد رحلته اليومية من عذاب الجسد وحسرة النفس نام الأخ المدمن والحزن يعتصر قلبه على ما صار إليه بعد ما كان عليه.. تظاهر مساعد بالنوم إلى جانبه وكل ما كان يشغله هو البحث عن حل وفجأة لمعت في ذهنه فكرة فانتفض إلى الإعلانات ومواقع التواصل والإنترنت ومكث ساهراً وأنساه نبل الهدف عناء البحث حتى اهتدى إلى مركز للتأهيل الصحي والعلاج من الإدمان في منطقة قريبة من منطقته.

ومع أول شعاع لشروق الشمس أيقظ مساعد أخاه شافي قاصدين المركز وصلا إلى هناك استقبلهما المعالج أخذ المدمن وجلسا على انفراد.. وبعد ساعتين عاد شافي مبتسماً وبارقة الأمل بدأت ترتسم في عينيه وقال لأخيه «غداً سأدخل المركز لتلقي العلاج» فابتسم مساعد وفي داخله ألم على ما مر به أخوه.

وفي صبيحة اليوم التالي انضم شافي إلى مصح التأهيل وجلس به قرابة أربعة أشهر وكان افتراق الأخوين خلال تلك المدة صعباً ولكن بعد ذلك جاء الفرج عاد شافي إلى طبيعته فعادت إليه حياته بعدما طردت السموم من دمه ورأسه.. لم يكن الأمر سهلاً لكنه تحقق بالإرادة والاعتراف من شافي والاحتواء من مساعد.

هذه القصة التي رواها مساعد عن أخيه شافي ليست من وحي الخيال بل أراد بها النصح وتقديم العبرة بعد كل ما عاناه أخوه من مآس كانت بدايتها لجوءه الى صديق سوء نصب له شركا سرعان ما أوقعه فريسة في وحل هذا المستنقع الآسن دون خوف من عقاب الدنيا أو عذاب الاخرة.

ولم يكن شافي إلا إحدى تلك الفرائس التي تقع بين براثن الإدمان التي لا ترحم حيث خسر أسرته وحاضره وكاد يخسر كل مستقبله لولا وقوف أخيه إلى جانبه واستعانتهما بمركز مختص في علاج الادمان فكان طوق نجاته للخلاص من مصيدة الإدمان التي لا ترحم لما تمتلكه مثل هذه المراكز من إمكانات واختصاصيين قادرين على مد يد العون إلى كل من وقع فريسة لهذه الآفة عبر طرق علاج مدروسة تعيد تأهيل الشخص عقلياً ونفسياً للاندماج مجدداً في المجتمع.

ومخدر «الكبتاغون» هو - كما يقول المعالج ميثم الأستاذ لـ«كونا» - أحد مشتقات مادتي «الأمفيتامين» و«التيوفيلين» وليس له أي استخدام طبي ولا يصنع تحت رقابة دوائية وتجارية بسبب أضراره المدمرة.

ويرجع الاستاذ أسباب السلوك العدواني لمتعاطي «الكبتاجون» إلى ما تسببه هذه المادة من هلوسات بصرية وسمعية تجعله أسير دائرة شك لا يخرج منها لدرجة تصل به إلى مرحلة رؤية الأوهام حقائق.

ويؤكد إمكانية التعافي من تعاطي هذه المادة من خلال انضمام المدمن إلى مركز صحي وخضوعه إلى جلسات مكثفة.