أكثر من خمس عشرة سنة قد مرت وأنت ترى أن كل ما حولك وقريب منك يتهالك شيئاً فشيئاً، بعضه ينهار، وبعضه الآخر يصارع من أجل البقاء.
أكثر من خمس عشرة سنة ونستفيق على عبارة «اللهم اجعله خيراً»، وما هي إلا لحظات لتكتشف أنه لا خير الآن، فتقول ربما القادم أفضل.
تبقى تنتقل من بلد عربي لآخر، حتى إن لم يكن الانتقال جسدياً، فلحظاتك كلها عبارة عن اطمئنان على صديقات وأصدقاء هم يمثلون لنا أوطاناً. عيناك وعيونهم محلّقة في الفضاء القريب جداً، وهم يراقبون ما يحدث وكأنه فيلم رعب قادم من زمن آخر، أو ربما من هوليوود صانعة الرعب كله، والمروجة له، ألم يحولوا السينما إلى أداة للاستعمار الفكري، وهو الأخطر، أو ربما فقط لتصنيف البشر على أنهم «بني آدميين» هناك ومجرد أرقام هنا؟!
تبقى النساء عندما يرحل الجميع، هن من يحملن الوجع والمسؤوليات متمسكات بالأمل رغم ندرة مؤشراته.
بقيت النساء عندما انقسم الرجال أو انتقلوا من جبهة لأخرى، والجبهات ليست كلها قتالية بمدفع رشاش أو قذيفة، فقد تكون الجبهة بربطة عنق أنيقة وساعة بآتيك فيليب! تبقى النساء حتى عندما لا يعرفن مصير أزواجهن أو إخوتهن أو أبنائهن.
يبقين متمسكات بالحياة في زمن الموت المتنقل بين عائلة وأخرى دون اهتمام بتفاصيل، إن كانت هذه مع هذا الطرف أو ضده.
قالت لي فاطمة في مركز اللجوء بمدينة حلب والقتال على أشده، إن زوجها قد رحل ولا تعرف إلى أين، وبقيت هي مسؤولة عن طفلين وآخر لا يزال في بطنها، وهي لم تتجاوز سنواتها العشرين.
وهناك بسمة التي لم تتوقف عن محاولة الخروج من سورية مع بناتها الثلاث رغم سقوط النظام وقيام نظام آخر! هي التي اضطرت لترك وظيفتها المتواضعة بعد أن توفي زوجها أثناء الحرب، وانتقلت لتعمل عاملة تنظيف في مكاتب إحدى المنظمات الأممية.
مثلها كثيرات ومثلهن كثر في كل بقاع سورية.
لم نعرف يوماً كيف توفي زوجها أو على أي جبهة، فقط حضرت لعملها في صباح أحد الأيام متشحة بما استطاعت أن تجده من سواد في خزانة ملابسها التي استخدمت بعض خشبها في ليل شتاء دمشقي شديد البرودة، ويومها قالت ذهبت إلى سوق «البالة» واضطررت لشراء هذا الحذاء، لأني قد بعت معظم أحذيتي لأوفر الطعام والتعليم للبنات.
وأم محمد التي استقبلتنا ونحن نُدخل لهم أكياس الطحين بعد أشهر من الحصار، قالت تفضلوا معنا سأقوم بطهي العشاء.
هي التي لم يكن قد بقي في مخزون مونتها أي شيء سوى بضع حبات من الأرز وكثير من البهار تحولهن إلى «شوربة» وتشاركنا نحن في طعام عيالها وأحفادها أو من تبقى منهم.
لم تتركنا نرحل مع ساعات الصباح الأولى وقد قضينا الليل معاً قبل أن نعدها بأننا سنعود يوماً لزيارتها في منزلها بعد أن تُعيد إعماره على وجبة غداء فاخرة مما كانت تقوم به قبل الحرب والحصار.
وهناك كانت نساء أخريات في داخل الوطن وخارجه يعملن جاهدات من أجل ألا تحذف نساء سورية من أي معادلة أو اتفاق أو أو....! رئيفة التي تشتاقها الأرض والسماء وكثيرات أُجبرن على الرحيل، وأخريات بقين يعملن بصمت من أجل سوريه القادمة، سورية الأجمل والأكثر عدالة، سورية الحضن لجميع أبنائها وخصوصاً نسائه.
الصديقات هنا وهناك كل في مجال عملهن وخارجه يغزلن الأمل مع صناديق الطعام و«المونة» وندوات، ودورات التدريب، والتمكين، وغيرها.
هن اللاتي تحدين الخوف الساكن في كل ثنايا البلاد، فلم يكن الخوف بلون واحد ولم يكن حصراً على فئة واحدة، ونقلن صوت نساء سورية إلى كل العواصم والميادين، وتجاوزن كل الخلافات من أجل أن يخطون معاً صوراً لما كن وما زلن يطمحن أن يكون هو وطنهن.
عندما اتصلت بي بسمة مؤخراً لنفس الطلب، وهو البحث عن فرصة للحياة، وأخريات من دمشق وحلب وحمص واللاذقية وطرطوس مناشدات من جديد ومطالبات بأن يسمع صوتهن، فهن القادرات على إعادة تجميع كل ما تحطم ليس من حجر وزجاج، بل والأهم من جيرة وأخوة وتعايش، حينها خفق قلبي وردد: لنساء سورية السلام ولهن محبتي.
* يُنَشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية