كانت تنذره بالرحيل لكنه ككثيرين قبله وغيره لم يفهم، أو هو لم يرد أن يتصور أنها قادرة على صنع قرار كهذا، فماذا عن إقراء المنصب أو اللحظة أو المرتب أو العائد المالي أو المركز في المجتمع أو... أو كثيرة هي المكاسب الصغيرة في عالم اليوم، وقليل جدا ما تكون المكاسب معنوية وعامة لا شخصية ومادية بحتة.
أفهمته أنها راحلة بالصفاء نفسه والبياض ذاته الذي حضرت به، ولم يفهم أو هكذا بدا من تعابير وجهه حتى حاولت أن تفسر له بأنها قد تعلمت منذ سنين طويلة أن السواد الذي يأتي من الخارج قد ينغرس داخل الإنسان نفسه الذي كان ضحية له، لو لم يعمل جهده على ألا يسمح للبقع السوداء أن تسكن نفسه أو نفسها.
ترحل أو يرحل عن صديق، أو وظيفة أو قريب أو حتى حبيب فيسكننا الحزن بعض الوقت، ثم يرحل تدريجياً، فيحل مكانه بقعة من السواد لا تلبث أن تكبر كالدائرة في الماء الراكد بعد أن يلقى فيه حجر، تتسع وتتسع حتى يملأ السواد المكان، وقد يكون ذاك المكان نفسه هو قلبك أو نفسك.
ما كانت تحاول أن تقوله له أنها لن تسمح بأن يبقى سواده وسوادهم أو سواد آخرين قبلهم وربما بعدهم أن يستقر في باطن نفسها، وبذلك يصبح كالسم البطيء الذي يتسلل إلى كل خلايا الجسد، ولم يكن منه إلا أنه استغرب ذاك التعبير، وبعد لحظات من التفكير نظر تجاهها ولكن ليس لها، وقال: «كم جميل أن تستطيعي ذلك، فقليلون منا هم القادرون على طرد السواد من دواخلهم رغم كثرة الإساءة».
عن تلك النقطة الناصعة البياض تحدثت، عن بياض يسكن النفس رغم تراكم الآلام والأوجاع والإساءات والجروح، عن بياض ينتصر على سوادهم رغم كثرته واقتحامه كل الحيوات التي ننتقل لها برغبتنا، وأحيانا ربما ضد إرادتنا أو عكسها! عن نفس كان يعبر عنها البسطاء منا بتعبير «نفسك خضرة»، هي تحمل مفاهيم عدة أن تكون نفسك خضراء، أي ما زالت صبية، صغيرة، (لا أحب تعبير البكر أبداً ولا أطيق من يستخدمه باستسهال)، عاشقة للحياة، متطلعة للمغامرات على اختلافها وكثرتها حتى تلك التي تدخل ضمن قائمة محرماتهم الطويلة! نفسك خضرة أو بيضاء ناصعة هي هي في نهاية الأمر أن تبقي داخلك بعيداً عن تلوثهم اللفظي أو المشاعري أو الوظيفي أو الطبقي أو السياسي أو القبلي، كلها ملوثات للنفس قبل الهواء رغم أنها أحيانا تتحول إلى جو خانق يخال للمرء فيه أن الهواء معبأ بالغازات السامة وليست هي سوى بضعة بشر يحاولون الجلوس على صدورنا حتى الاختناق.
أن تبقي نفسك بيضاء وتحميها من سواد يطاردها، هو إنجاز كبير في جو مليء بالغازات السامة المنبعثة من المصانع والعربات الفاخرة والبوارج أو باختصار التلوث المرتبط بالجشع، فبالعودة السريعة لكل أنواع التلوث يبقى الجشع هو السبب والمسبب الأكبر!
يقولون ادخلوا 2023 وما بعدها وما بعد بعدها برجلكم اليمين، ونقول ادخلوها بتلك المساحة البيضاء النقية كالثلج والساكنة بهدوء والمتحصنة بقناعة أن الخير لا بد أن ينتصر أو هكذا نحلم، وأن كثيراً من القبح والشر لن يستطيع أن يبقى لو كبرت المساحات البيضاء داخلنا قبل أن تكون فقط على ألسنتنا أو في دعائنا في حين القلوب «مليانة»، والنفوس مليئة بالبقع السوداء كبقع النفط المتسربة من تلك الباخرة في شمال الخليج قبل أعوام وأعوام!
لا أعرف إن كنا سندخل العام الجديد برجلنا اليمين أو الشمال أو بكلتيهما، ولكن أتمنى أن يبدأ العام باغتسال من كل سواد أو حتى سحابة سوداء مرت في أيامنا، وكادت تقتحم تلك النفوس الموصدة في وجهها والعامرة بالبياض.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.
أفهمته أنها راحلة بالصفاء نفسه والبياض ذاته الذي حضرت به، ولم يفهم أو هكذا بدا من تعابير وجهه حتى حاولت أن تفسر له بأنها قد تعلمت منذ سنين طويلة أن السواد الذي يأتي من الخارج قد ينغرس داخل الإنسان نفسه الذي كان ضحية له، لو لم يعمل جهده على ألا يسمح للبقع السوداء أن تسكن نفسه أو نفسها.
ترحل أو يرحل عن صديق، أو وظيفة أو قريب أو حتى حبيب فيسكننا الحزن بعض الوقت، ثم يرحل تدريجياً، فيحل مكانه بقعة من السواد لا تلبث أن تكبر كالدائرة في الماء الراكد بعد أن يلقى فيه حجر، تتسع وتتسع حتى يملأ السواد المكان، وقد يكون ذاك المكان نفسه هو قلبك أو نفسك.
ما كانت تحاول أن تقوله له أنها لن تسمح بأن يبقى سواده وسوادهم أو سواد آخرين قبلهم وربما بعدهم أن يستقر في باطن نفسها، وبذلك يصبح كالسم البطيء الذي يتسلل إلى كل خلايا الجسد، ولم يكن منه إلا أنه استغرب ذاك التعبير، وبعد لحظات من التفكير نظر تجاهها ولكن ليس لها، وقال: «كم جميل أن تستطيعي ذلك، فقليلون منا هم القادرون على طرد السواد من دواخلهم رغم كثرة الإساءة».
عن تلك النقطة الناصعة البياض تحدثت، عن بياض يسكن النفس رغم تراكم الآلام والأوجاع والإساءات والجروح، عن بياض ينتصر على سوادهم رغم كثرته واقتحامه كل الحيوات التي ننتقل لها برغبتنا، وأحيانا ربما ضد إرادتنا أو عكسها! عن نفس كان يعبر عنها البسطاء منا بتعبير «نفسك خضرة»، هي تحمل مفاهيم عدة أن تكون نفسك خضراء، أي ما زالت صبية، صغيرة، (لا أحب تعبير البكر أبداً ولا أطيق من يستخدمه باستسهال)، عاشقة للحياة، متطلعة للمغامرات على اختلافها وكثرتها حتى تلك التي تدخل ضمن قائمة محرماتهم الطويلة! نفسك خضرة أو بيضاء ناصعة هي هي في نهاية الأمر أن تبقي داخلك بعيداً عن تلوثهم اللفظي أو المشاعري أو الوظيفي أو الطبقي أو السياسي أو القبلي، كلها ملوثات للنفس قبل الهواء رغم أنها أحيانا تتحول إلى جو خانق يخال للمرء فيه أن الهواء معبأ بالغازات السامة وليست هي سوى بضعة بشر يحاولون الجلوس على صدورنا حتى الاختناق.
أن تبقي نفسك بيضاء وتحميها من سواد يطاردها، هو إنجاز كبير في جو مليء بالغازات السامة المنبعثة من المصانع والعربات الفاخرة والبوارج أو باختصار التلوث المرتبط بالجشع، فبالعودة السريعة لكل أنواع التلوث يبقى الجشع هو السبب والمسبب الأكبر!
يقولون ادخلوا 2023 وما بعدها وما بعد بعدها برجلكم اليمين، ونقول ادخلوها بتلك المساحة البيضاء النقية كالثلج والساكنة بهدوء والمتحصنة بقناعة أن الخير لا بد أن ينتصر أو هكذا نحلم، وأن كثيراً من القبح والشر لن يستطيع أن يبقى لو كبرت المساحات البيضاء داخلنا قبل أن تكون فقط على ألسنتنا أو في دعائنا في حين القلوب «مليانة»، والنفوس مليئة بالبقع السوداء كبقع النفط المتسربة من تلك الباخرة في شمال الخليج قبل أعوام وأعوام!
لا أعرف إن كنا سندخل العام الجديد برجلنا اليمين أو الشمال أو بكلتيهما، ولكن أتمنى أن يبدأ العام باغتسال من كل سواد أو حتى سحابة سوداء مرت في أيامنا، وكادت تقتحم تلك النفوس الموصدة في وجهها والعامرة بالبياض.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.