«هيئة الأسواق»... شركات متراخية في تطوير أنظمتها لاستيعاب الأدوات المالية
• إطلاق المنتجات يتطلب أنظمة تستوعبها ونحاول تضييق الفجوة مع المتقاعسين
• في البورصة شركات متعاونة وأخرى متهاونة تحتاج إلى محاسبة
مع تحقيقها نسبة توافق تجاوزت 98 بالمئة مع المعايير الدولية المنبثقة عن مبادئ المنظمة الدولية للهيئات المشرفة على أسواق المال (الأيسكو) وأهدافها، يمكن القول إن هيئة أسواق المال باتت اليوم قاب قوسين أو أدنى من تحقيقها نسبة امتثالٍ تامة مع مبادئ تلك المنظمة الدولية ذات المهنية الأرفع في مجالات الرقابة والإشراف على أسواق المال.
ويعكس هذا الامتثال تأكيد الهيئة التزامها بأهداف المنظمة الدولية التي تتمحور حول قضايا عدة، تبدأ بحماية المستثمرين وزيادة وعيهم، وتنتهي بالتوصل إلى أسواق مال مؤهلة جاذبة تتمتع بالعدالة والنزاهة والكفاءة والشفافية، ووضع الحلول المطلوبة لمواجهة الأخطار النمطية والنظامية من خلال إجراءاتٍ عدة، كالتعاون في تطبيق أهم المعايير الدولية، والارتقاء بمعدلات الالتزام بها، لاسيما ذات الصلة منها بسنّ القوانين والرقابة وإنفاذ القانون، وتبادل المعلومات بين أعضاء المنظمة الدولية، وتشارُكية التجارب الرقابية والتنظيمية.
مطلوب تعاون رقابي لتبادل المعلومات لمجابهة المخالفين والمتلاعبين
وجعلت هيئة أسواق المال في الكويت من تلك المعايير والأهداف أسساً لرسالتها في توفير نظام إشرافي ورقابي قائم على مبدأ العدالة والشفافية والنزاهة، ومواكبة أفضل الممارسات العالمية، كما ضمنت المادة الثالثة من قانون إنشائها جلّ تلك الأهداف.
ويمكن القول حقيقة، إن عمليات التقييم المتصلة بالتوافق مع معايير «الأيسكو» شهدت تطورات قياسية متسارعة بدأت وفق مستويات توافق متدنية مع مباشرة الهيئة مهامها قبل ما يزيد قليلاً على عقدٍ من الزمن حينما أشارت إلى «نزرٍ يسير» من توافق جزئي مع بعض معايير المنظمة ال 37 لتبدأ بعد ذلك رحلة صعودها القياسي مع انضمام الهيئة لتلك المنظمة في عام2017 حينما وضعت نصب عينيها هدف الوصول إلى نسبة توافق تامة 100 بالمئة معها، رغم التحفظات التي أبداها الكثيرون لاعتبارات تتعلّق ب «خصوصية» بيئة الاستثمار المحلية لا بدّ من مراعاتها.
اليوم، ومع وصول الهيئة إلى مشارف تحقيق هدفها الطموح، تثار تساؤلات عدة حول آلية الهيئة وأدواتها ل «تطويع» بيئة أنشطة الأوراق المالية المحلية، و«الارتقاء» بضوابطها لتتوافق مع معايير المنظمة الدولية.
فلسفة خاصة
التساؤلات السالفة الذكر، حملناها إلى مصادر الهيئة التي أشارت إلى نهج خاص لديها تعتبر فيه ذاتها «شريكاً مطوراً» و«مراقباً مقوماً» لا رقيباً متصيداً متزمتاً ملتزماً بتطبيق التشريعات بحرفيتها دونما مراعاة للخصوصية المشار إليها من ناحية، وتهيئة البيئة المواتية لتطبيقها لدى المعنيين بها من ناحية أخرى.
مرونة... وتدرّج
وتشير المصادر إلى أن أدوات الهيئة لتحقيق ذاك النهج يمكن إيجازه بكلمتين اثنتين تمثّلان قوام سياسة الهيئة وفلسفتها على الصعيدين الرقابي والتنظيمي وهما المرونة والتدرج.
الهيئة لا تعوق تطور الشركات... لكن لا تفرّط في حماية حقوق المساهمين
عملياً، يمكننا الإشارة إلى عديد من الأمثلة التي تؤكد حقيقة «المرونة والتدرج»، كما هي الحال في المخالفات المرصودة المحالة للتحقيق، ومن ثمّ إلى مجلس التأديب، إذ ثمة تدرّج يرتبط بنوع المخالفة ومدى بساطتها وأهميتها وفقاً للدليل الخاص بذلك وللسياسة الداخلية للشركة.
فقد يقتصر الإجراء في حال المخالفات البسيطة برفع كتاب تنبيه دون اللجوء إلى التحقيق، فينبه إلى ضرورة تلافي المخالفة. أما الجسيم من المخالفات فيُحال للتحقيق. وقد يُكتفى من رد الشركة ب «تنبيه» يوجه إليها من المدير التنفيذي للهيئة بناءً على المادة 143 من قانون إنشاء الهيئة.
وثمّة أمثلة أخرى للتدرج في تطبيق الإجراءات الرقابية والتشريعية، ومنها - على سبيل المثال لا الحصر - تطبيق قواعد حوكمة الشركات عام 2016، حيث اتسمت منهجية تطبيقها بمرونة شملت أغلب تلك القواعد وفق مبدأ «الالتزام أو التفسير»، كما كان الوضع مماثلاً لدى تطبيق برنامج المؤهلات المهنية للوظائف الواجبة التسجيل، حيث وضعت الهيئة سياسة إعفاء من متطلبات البرنامج بالنسبة إلى حاملي بعض الشهادات، كما حددت فترة تجريب غير ملزمة للتطبيق امتدت سنة كاملة، قبل دخوله مرحلة التطبيق الإلزامي.
«أسواق المال» تؤكد على كل صاحب مصلحة متضرر أن يتقدّم بشكوى وألا يسكت عن حقه
وبصورةٍ مماثلة، كان تطبيق معايير كفاية رأس المال للأشخاص المرخص لهم، وغيرها الكثير.
في المجال الرقابي أيضاً، اعتمدت الهيئة مبدأ التدرج في الرقابة ريثما تستوعب الجهات الخاضعة لإشراف الهيئة ورقابتها والمعنيّة بتطبيق تشريعات الهيئة بشكل كامل الالتزامات المطلوبة منها، الأمر الذي يقتضي تعيين الأكفاء من كوادرها وتأهيلهم وإخضاعهم لبرامج تدريب متخصصة، كما يتطلب منها أيضاً اتباع سياسة لإدارة المخاطر حصيفة ومواتية تشكل ردءاً من الوقوع في المخالفات.
لا هوادة... ولا تهاون!
«المرونة» المطلوبة التي تبديها الهيئة لا تعني بحالٍ من الأحوال تساهلاً مفرطاً معيقاً لتطور الشركات من ناحية، وضياعاً لحقوق مساهميها من ناحيةٍ أخرى. إذ ثمة إلزام صارم في تطبيق بعض الجوانب التنظيمية والأحكام التشريعية، وهذا ما نلمسه من خلال إلزام بعض الشركات المدرجة بتوفير نظام تصويت إلكتروني لمساهميها، إضافة إلى أحكام العديد من كتب اللائحة التنفيذية لقانون إنشاء الهيئة التي تعكس حزماً عادلاً مطلوباً في التطبيق، ومنها على سبيل المثال أحكام الكتاب السادس عشر (مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب)، والكتاب العاشر (الإفصاح والشفافية)، كذلك الكتاب الرابع عشر (سلوكيات السوق)، إضافة إلى الكتاب الثالث (إنفاذ القانون)، والكتاب السابع (أموال العملاء وأصولهم)، إذ إن أحكام هذه الكتب على وجه التحديد ترتبط بمصلحة عامة تمسّ الكويت، وهي مصلحة تسمو على المصلحة الخاصة بطبيعة الحال حين التعارض.
الهيئة ترى أن بيئة الأوراق المالية باتت عالمية دون أن نفقد الخصوصية الكويتية
إذ إن تهاوناً في الالتزام بأحكام هذه الكتب لا يقتصر على الاعتبارات المتعلقة بحماية السوق وعملائه فحسب، بل ينعكس سلباً على تصنيف الكويت وفق المؤشرات الدولية، كما هي الحال على صعيد المتطلبات الخاصة بالالتزام بمعايير عملية التقييم المتبادل، ومدى الالتزام بتوصيات مجموعة العمل المالي FATF والتي من المتوقّع استكمالها بصورة نهائية لدى جميع الجهات المعنيّة بالكويت، علماً بأن الهيئة جاهزة منذ مدة زمنية للتقييم المتبادل المتوقع في مايو 2023، وكذلك مؤشرات تحسين بيئة الأعمال، وغيرها.
وفي إطار سياسة ال «لا تهاون» التي تمارسها الهيئة، تشير المصادر إلى عدم تهاونها في الإبلاغ عن الجرائم المرتكبة من الجهات الخاضعة لإشرافها، سواءً كانت شركات أم أشخاصا مرخصا لهم أو مسجلين.
مسؤولية خاصة
وتؤكد مصادر الهيئة أن فوارق جوهرية كبيرة متفاوتة في تعامل وتعاون الشركات الخاضعة لإشراف الهيئة معها، إذ إن هناك شركات متعاونة تسارع في أعقاب رصد المخالفة من قبل الهيئة لمباشرة العمل على تصويبها قبل اتخاذ الهيئة إجراءها التالي.
في المقابل، هناك شركات لا تلقى كثير اهتمام لما يُرصد من مخالفات تتعلق بها، وهنا تقع المسؤولية - بالدرجة الأولى - على مجلس إدارة الشركة ولجنة التدقيق فيها، وكذلك مراقب حساباتها الذين يقع على عاتقهم جميعاً عبء الوفاء بالالتزامات القانونية الواجبة المترتبة على رصد مخالفات العاملين لديها وتصويبها قبل رصد الهيئة لها.
الهيئة من جانبها لا تقوم برصد المخالفة وإحالتها لجهة الاختصاص إلّا بعد تلقّي رد الشركة ودراسته مع الإدارات الفنية المختصة لديها ومع الجهات الخارجية ذات الصلة، فإن توافقت الآراء على وقوع شبهة المخالفة اتخذت حيالها الإجراءات القانونية.
الهيئة تشدد على تطبيق القانون على الكبير قبل الصغير بلا تهاون... دون تربّص بأحد
ومقابل عدم تهاون الهيئة في الإبلاغ عن الجرائم المرتكبة، فثمة منحى مغاير تتخذه حيال التعامل مع شبه الجرائم الأخرى التي تكشفها، إذ إنها تقوم بإحالتها للجهة الحكومية المختصة لاستكمال الإجراءات المتعلّقة بالتحقق منها.
وفي المحصلة، تؤكد المصادر أن سياسة الهيئة في ممارسة المهام الرقابية على الجهات الخاضعة لإشرافها تتّسم بالحصافة، وهي أبعد ما تكون عن «التربص» و»تصيُّد المخالفات» لإيقاع العقوبات. كما أنها، انطلاقاً من مبدأ «درهم وقاية خيرٌ من قنطار علاج»، تتخذ طابعاً استباقياً في معظمها، مما يساعد الجهات المعنية على تفادي ارتكاب الأخطاء التي تشكل مخالفات أو جرائم.
كما أنها - في المقابل - لا تغضّ الطرف عنها حين رصدها، والقانون هنا يسري على الجميع بلا استثناء، كبيرهم قبل صغيرهم.
النظام العام
وختاماً تؤكد مصادر الهيئة، في إطار اعتمادها منهج «المرونة والتدرج» بالتطبيق على حرصها لترسيخ تدريجي لثقافة القبول والتطبيق ما دام في إطار القوانين المرعية، وبما يتفق مع سيادة القانون ويمنح قرارات الهيئة المشروعية المطلوبة، وبما يساعد أيضاً على استيعاب هدف القيود الموضوعة بحدودها اللازمة لتحقيق التوفيق بين المصلحة العامة
ومصالح الأشخاص الخاضعين لرقابة الهيئة، على أن تسمو المصلحة العامة على المصالح الخاصة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الالتزام بصريح القانون، وفقاً لقواعده الآمرة، مقدّم على جميع المصالح، لأنه يمثّل (النظام العام)، خاصة أن الهيئة في نهاية المطاف لم ولن تكون خصماً للشركات، بل شريك مطور لها، يراعي مصالحها واستمرارية أعمالها دون تفريط بالتزاماتها قطعية الدلالة وقطعية الثبوت في الوقت ذاته.
من ناحية أخرى، تشير المصادر إلى سعي الهيئة الدائم لتحقيق التوازن العادل المطلوب بين الإجراءات التنظيمية والرقابية من ناحية، والقيود والضوابط المتعلقة بها من ناحية أخرى. ف «الإفراط» في فرض الضوابط والقيود يعني «حداً» من قدرة الشركات على الابتكار، وتقييداً لها يحد من الإبداع والتطوير والمنافسة.
في المقابل، فإن تقليل تلك الضوابط قد يعني من ناحيةٍ أخرى «تفريطاً» في حقوق المتعاملين، وكبحاً لآليات الهيئة لحمايتهم، فالتنظيم يعنى بالجهات الخاضعة لإشراف الهيئة، أما القيود فتهدف دوماً لحماية المتعاملين وتوازن طرفَي هذه المعادلة أمر يقتضي جهداً دؤوباً ويقظة وحكمة دائمتين تمليها الهيئة بتمكّن واقتدار.
وتختتم المصادر بأن الهيئة من خلال فلسفتها الخاصة المستندة إلى «المرونة» و«التدرج» و«التشاركية» و«سيادة القانون»، نجحت إلى حد بعيد في تحقيق التوازن المطلوب بين توفيق إجراءاتها التنظيمية والرقابية مع المعايير الدولية من ناحية، وتجاوز العقبات المتصلة بخصوصية البيئة المحلية وتطويعها من ناحية ثانية. الأمر الذي لا يعكسه التوافق شبه التام مع معايير «الأيسكو» فقط، بل تلك القفزة النوعية الهائلة في مقومات بيئة أنشطة الأوراق المحلية التي غدت عالمية بامتياز، دون أن تفقد طابعها المحلي، وهذا ما أهّلها عن جدارة
واستحقاق، لتصبح وجهة مؤهلة لجذب الاستثمارات الخارجية العالمية والإقليمية وتوطين المحلية.
تشاركية مطلوبة واستحداث كيانات
تؤكد مصادر الهيئة أن سياستها المتعلقة بالجانب التنظيمي تستند إلى متابعة أحدث الممارسات العالمية، واستطلاع رأي أصحاب المصلحة، وإعداد المنتج حتى ولو لم تتهيأ البيئة المواتية له تماماً، ولم تتوافر كل مقوماته بعد، وذلك بهدف دراسة السوق من جميع جوانبه والاستعداد لتوفير المقومات المطلوبة لنجاحه، مع التدرّج في إصدار المنتجات المالية ومراعاة إجراء الاختبارات الفنية المطلوبة من أطراف منظومة أسواق المال.
«أسواق المال» تعتمد مبدأ التدرج في الرقابة ريثما تستوعب الجهات الخاضعة لإشرافها والمعنيّة بتطبيق تشريعاتها بشكل كامل الالتزامات المطلوبة منها
ومثال ذلك مشروع استحداث كيانات البنى التحتية، وتحديداً نظام الوسيط المركزي (CCP) الذي يرتبط نجاح إطلاق بعض المنتجات المالية التي يستهدفها بمدى نجاح الاختبارات التجريبية التي يجريها كل من بنك الكويت المركزي والبنوك التجارية والشركة الكويتية للمقاصة.
كما أن إطلاق منتجات أخرى أيضاً يتطلب قيام أصحاب المصلحة بتهيئة أنظمتهم الفنية المطلوبة لاستيعاب تلك المنتجات، والاستعداد لوضعها وضع التطبيق.
وتؤكد المصادر أن تراخياً ملموساً لدى بعض هؤلاء في تطوير أنظمتهم لأسباب مختلفة قد يكون من بينها ضعف قدراتهم المالية، وهو ما يمثّل واحداً من أسباب فشل المنتج، وفي أحسن الأحول تأخر إطلاقه أو تعثره.
وتؤكد المصادر أن التعاون في هذا الإطار مطلوب وضروري لارتباطه بتطوير السوق ومنتجاته، والهيئة قد تسبق القطاع الخاص بخطوات في بعض الأحيان بمسار تطوير السوق، وتعمل جاهدةً لتذليل الفجوة الماثلة.
التشاركية مطلوبة أيضاً على صعيد إجراءات الهيئة التنظيمية والرقابية، فلا بدّ للمساهم من القيام بدوره، ولا بدّ للمتضرر أو صاحب المصلحة من التقدم بشكواه أو بلاغه. وهنا تضيف المصادر أن الهيئة - رغم إقرارها العديد من الأحكام التي تحمي حقوق الأقلية، وحرصها على تحقيق التوازن بين حماية حقوق الأغلبية والأقلية ومبادئ الديموقراطية في إدارة الشركات، وحق الأغلبية في اتخاذ القرارات، ومراعاتها لعدم الإجحاف بحقوق الأقلية من المساهمين مقابل عدم تعسّف الأقلية في ممارسة حق الاعتراض على قرار الأغلبية - فإنها لن تستطيع فعل الكثير فيما لو تقاعس المساهمون عن التمسّك بحقوقهم والدفاع عن مصالحهم، وممارسة دورهم في محاسبة مجلس الإدارة وتوجيهه لمعالجة المخالفات، والاعتراض على قرارات الجمعيات العامة التي تمثّل إضراراً بمصالحهم دونما وجه حق.
ولا بدّ من تعاون مطلوب من الجهات الرقابية الأخرى، لاسيما على صعيد التزود بالمعلومات المطلوبة، والإحاطة بتفاصيل شبهات المخالفات، خاصة أن أساس قرارات الهيئة يرتكز إلى الحقيقة واليقين لا الظن والتأويل، إذ إن عدم التعاون أحياناً قد يترتب عليه تأخر في اتخاذ بعض القرارات والإجراءات بما يمثّل إضراراً بمصالح البعض.