ما من مسألة تثير حماسة المفكرين المحمومين في بروكسل بقدر تحليل الأسس النظرية للسياسة الخارجية الأوروبية،

فعندما وقّع الاتحاد الأوروبي مع تركيا صفقة رعتها ألمانيا بهدف الحد من تدفق اللاجئين في أواخر السنة الماضية، ما كان يأبه لأي أمر، وقد قدّمت "خطة العمل" هذه، التي اعتبرها المسؤولون الأوروبيون خطوة ممتازة في إدارة شؤون الدول، المال لأنقرة، وإمكان السفر بدون تأشيرة إلى الاتحاد الأوروبي، وتسريع طلب العضوية، شرط أن يبقي الأتراك المهاجرين بعيداً عن أوروبا، وشكلت هذه إحدى أهم مبادرات السياسة الخارجية الأوروبية منذ سنوات، إلا أنها خلت من أي استراتيجية وعكست يأساً عارماً.

Ad

رمزت هذه الصفقة، على ما يبدو، إلى تبدل "واقعي" في السياسة الخارجية الأوروبية، فيتداول السياسيون والدبلوماسيون اليوم أفكارا مثل خفض المساعدات للدول التي ترفض عودة مَن يخفقون في الحصول على اللجوء.

من السهل بالتأكيد التذمر بشأن حقوق الإنسان عندما تعيش في جنة عصرية آمنة، لكن الوضع يتبدل حين يبدأ ملايين اللاجئين غير الشرعيين باقتحام حدودك الخلفية.

حتى في أيامه الحلوة والهانئة لم يكن الاتحاد الأوروبي عاجزاً، فقد جمعت أداته الأقوى (جاذبية عضويته) المصالح والقيم الأوروبية في رزمة واحدة. على سبيل المثال حمَلَ التوسع شرقاً الاستقرار للمنطقة، معززاً في الوقت عينه حكم القانون والمؤسسات الديمقراطية داخل الدول المرشحة، أما على الصعيد العالمي فسعى الأوروبيون إلى دعم نظام يقوم على القواعد ويتيح الترويج لصادراتهم في آن واحد.

بدأ هذا التوجه المستقبلي إلا أن الوضع تبدل اليوم، فقد قادت التهديدات أوروبا إلى مسار مختلف، فما عادت قوة أوروبا تمتد إلى الخارج، على العكس صبت الدول المحيطة عللها على أوروبا، ونتيجة لذلك ما عاد التوسع مطروحاً، حتى في البلقان صار همّ الاتحاد الأوروبي الأول الحفاظ على النظام، في حين يتدفق الملايين عبر منطقة غير مستقرة تاريجياً، كذلك قوّض تدخل روسيا الدموي في أوكرانيا الاعتقاد الأوروبي أن من غير الممكن تبديل الحدود بالقوة، فضلاً عن أن أوروبا واجهت صعوبة في الرد في البداية.

بالإضافة إلى ذلك قد تنجح الصفقة التركية في النهاية (مع أن شارلمان يواجه صعوبة في العثور على مَن يصدق ذلك)، وإن تمكنت من خفض عدد اللاجئين ونجت منطقة شنغن الخالية من الحدود، يكون أحد المثل الأوروبية قد أُنقذ، أما إن أخفقت فيعتقد المتفائلون رغم ذلك أن علاقات الاتحاد الأوروبي مع جارة مهمة ستكون قد خرجت من حالة جمود عميقة، فبما أن التنديد بسيطرة إردوغان على السلطة في تقارير تقدَّم لا تأثير لها لا يعود بأي فائدة، يستطيع سياسيو الاتحاد الأوروبي اليوم صبّ مخاوفهم على تبادل اللاجئين، تماماً كما فعل بعض المبعوثين الزائرين قبل أيام في أنقرة، كذلك قد ترغم هذه الأزمة الاتحاد الأوروبي على النظر إلى الخارج مرة أخرى، فيشير يان تيشو من معهد كارنيغي أوروبا (مؤسسة فكرية) إلى أن تونس تكتظ بالدبلوماسيين الأوروبيين والمال الأوروبي، مما يشكل دليلاً على يأس الاتحاد الأوروبي للخروج بمقدار من النجاح من الربيع العربي.

لكن هذه الآمال ضئيلة، فقد ظهرت نقاط ضعف أوروبا جليةً، وقد يتنبه حاكم شبيه بالقذافي في المستقبل للتنازلات التي قد يجنيها بالتهديد بإطلاق دفق من المهاجرين على الشواطئ الأوروبية، كذلك تخشى فنلندا والنرويج أن يقرر بوتين القيام بأمر مماثل بفتح الطريق أمام فيض من السوريين والأفغانيين، أما على الصعيد التركي فلو أدرك الأوروبيون الخطر المحدق بهم الربيع الماضي لما اضطروا إلى المساومة على قيمهم بهذا الشكل البشع في الخريف، ولا شك أن هذا كان سيشكل خطوة استراتيجية، إذ آن الأوان لنفض الغبار عن تلك التقارير المدروسة البعيدة النظر.