في إحدى المدن الأوروبية كنت أسير بسيارة مستأجرة قاصداً أحد المحال التجارية، وما إن اقتربت من هدفي المنشود حتى أرسلت حاسة بصري على المسار الجانبي للشارع والتي سرعان ما أرسلت إلى دماغي إشارة التحرك بالمركبة إلى موقف شاغر. ترجلت بعدها من السيارة، ووقفت أمام جهاز الدفع الآلي للمواقف والذي غذيت فمه بالمبلغ المطلوب فغذى يدي بإيصال الدفع الذي وضعته بشكل بارز على زجاج السيارة الأمامي.
بعد ذلك بأشهر شاءت الظروف أن يتكرر معي ذلك الأمر في إحدى المدن الخليجية، وكان كل شيء أقرب إلى التشابه، السيارة المستأجرة، الشارع المزدحم، جهاز الدفع الآلي للمواقف، ورغم كل ذلك تناولت إيصال الدفع بغضب عارم بعد أن أسمعت الجهاز الآلي المتطور والحديث سيلاً من الشتائم، ولم تكن إطلاقاً رسوم الموقف الزهيدة سببا في تلك الغضبة.بعد ساعة من هدوء، تساءلت في نفسي عن المنطقية التي تجعلنا أحياناً نتقبل بعض الأنظمة في الخارج ونستاء من تطبيقها في الداخل، وتساءلت أيضاً عن السبب الذي لا يجعلنا أحياناً نستبشر خيراً بالعبارات الرنانة التي يتشدق بها المسؤولون، والتي تتحدث عن جلب أحدث الأنظمة الخارجية المتطورة من أجل تطبيقها في بلادنا.الكثير يروج لمبدأ "التوعية" على أنه السبب الخفي وراء كل ذلك التناقض، وهو لا شك أمر مهم ومطلوب، ولكن لو توقفنا عند كثير من الأنظمة الأجنبية الناجحة التي منيت بفشل ذريع عند تطبيقها في بلادنا، لوجدنا أن الداء الرئيسي لفشلها أنها استنسخت كما هي بدون إجراء أي تعديلات عليها، تجعلها تتماهى مع الظروف التي نعيش فيها.لذلك ببساطة كانت ردة فعلي الثانية متناقضة عن ردة فعلي الأولى لأنني عندما وضعت قطع العملات المعدنية في جهاز الدفع الأوروبي لم أجد صعوبة في البحث عن العملات المعدنية لكثرة استخدامها وانتشارها في تلك البلدان، ولكني عندما وقفت أمام جهاز الدفع الخليجي أخذت أستجدي عمال "البقالات" في تلك المدينة الخليجية حتى يستبدلوا العملة الورقية التي بين يدي إلى عملة معدنية، لأن من استنسخ هذا النظام استنسخه كما هو دون أن يفكر ولو لحظة في ندرة استعمال العملة المعدنية في مدننا الخليجية، وكان من الأولى استنساخ العقول بدلاً من استنساخ الأنظمة، فبعض العقول التي كتب لها أن تدير بعض المنشآت الحيوية كالعملات المعدنية التي سكّت في غابر الزمن، ولا حل معها إلا أن توضع في المتاحف الأثرية، وتستبدل بعقول ورقية مرنة تتشكل مع متطلبات التغيير والتطوير.* مكة المكرمة - السعودية
مقالات
العقول المرنة
17-04-2016