يحكى في القدم، أن خطيباً للجمعة، ما كان يعتلي المنبر ناصحاً إلى منقبة أو محذراً من مفسدة، إلا تلاقي كلماته قبولاً وامتثالاً من أغلبية جموع المصلين.
هذا القبول تفطن له عبد مملوك لأحد الأشخاص، فتقدم في أحد الأيام إلى ذلك الخطيب بعد فراغه من إحدى الصلوات موضحاً له تضجره من حياة الرق متمنياً في نفس الوقت أن يخصص خطبة للحديث عن فضل عتق الرقيق، علّها تصل إلى سويداء قلب مملوكه، فيحرره امتثالاً لكلمات الخطيب التي دائماً ما ينصاع لها الأغلبية باقتناع تام.مر الأسبوع الأول ومر بعده الثاني والثالث، وفي كل أسبوع كانت خطبة الجمعة تحمل عنواناً مختلفاً عما يترقبه، توالت بعدها أكثر من جمعة، وتوالى الإحباط يتراكم صخرة بعد صخرة فوق جسده المهموم، حتى يئس من أن يتغير في واقعه من شيء.ذات يوم، وعندما قطع الهدوء صوت خطيب الجمعة قائلاً: السلام عليكم، لم يصدق العبد نفسه أن الخطيب وفّى معه وعده المرتقب، في تلك اللحظة زال كل غضبه وانتهى كل عتبه، وانشغل بعينه بعيداً عن منظر الإمام المعتلي منبر التحدث صوب من يملك عقد حريته، كان يبحث عن ملامح رضا وتفاعل منه، علّها تكون بوادر حلم تحرره.في اليوم الذي تلا ذلك كان لزاماً على ذلك العبد الذي نال حريته، أن يشكر الإمام على تلك البادرة التي كانت مثل المفتاح الذي جعل مالكه يفتح له باب الحرية، ورغم ذلك لم يستطع أن يبدي له استغرابه من تأخره الشديد في طرح تلك القضية على منبر الجمعة.تبسم له الخطيب وقال له: إني لا أتحدث للناس في أمر ما، إلا بعد أن أستشعره بنفسي، حتى يكون كلامي صادق المعنى ومدعاة للقبول، وأنا في حياتي لم أمتلك عبداً حتى أستشعر معنى العتق، لذلك كنت في الفتره السابقة أبحث عن عبد، وما إن امتلكته، حتى عتقته بعدها بأسابيع، ولم أخطب في الناس اليوم إلا بعد أن تفهمت الفضل والشعور الذي سأحدثهم فيه، وهذا ديدني في كل خطب الجمعة فلا أتحدث في موضوع إلا بعد أن أطبقه على نفسي أولاً.فارق الإمام بعدها حياته بسنوات، ولكن أفضاله لم ترحل وظل ذكره الحسن يتناقل بين ألسنة الأجيال جيلاً بعدً جيل، وغدا مثالاً يحتذى به.ونحن في زماننا هذا أحوج إلى أن ينتهج كثير من خطبائنا نهج ذلك الخطيب، فيتلمسون هموم الناس بصدق وهم يتحدثون، ويدعون إلى العدل وهم به آمرون، فمن العار عليهم أن ينهوا عن خلق ويأتوه من خلف أعين الناس، لأن ذلك لن يقلل فقط من تأثير كلماتهم في الناس وانتزاع قبول نصائحهم من قلوبهم، بل سيجعلهم عرضة للتهكم ومدعاة لنبذهم، وكذلك الحال ينطبق على كل صاحب منبر للتحدث، سواء كان صحافياً أو إعلامياً أو غير ذلك.لكن المصيبة الأكبر، عندما تتولى تلك العينات تسيير العدل بين فئات من الناس، والمصيبة أعظم عندما يتلبسون بغطاء الدين، فإن السرطان القاتل ليس في كلماتهم وادعاءاتهم بالأخلاق الشريفة ومحاربة الفساد والرذيلة، بل في مواقعهم الحساسة، التي ستجعل ميزان العدالة ميزاناً مدلساً، وكما أن الله يقيم النظام العادل حتى إن كان كافراً، فإنه لن يغني شيئاً من يأمر بالعدل أمام الناس، وينهى عنه من خلف أعينهم! فسيأتي اليوم الذي يضع فيه فوق إحدى كفتي ميزان العدل الحقيقي.حيث في الكفة الأخرى ستكون مظالم الأفراد التي اقترفها والحماقات التي ارتكبها والادعاءات التي كان يزيفها، وقتها سيتمنى أن تبتلعه الأرض وألا يرى مصيره بسبب تزويره للعدل وتدليسه للحق.على كل صاحب سلطة أن يعلم أن مكر الله أعظم من مكره، فلا يظن أن تزويره للحق لن يظهره الله يوماً من الأيام، فها هي ثورات الشعوب المثال الأكبر لإحقاق الحق، فقد وضعت تلك الثورات هتافات الحرمان والظلم والجور التي عانتها الشعوب في كفة ميزان العدل، الذي رجّح الحق لمصلحتهم و"أطاش" بحكام الظلم والجور في الكفة الآخرى إلى مزابل التاريخ، والفطين من أحسن استخدام الميزان قبل أن يستخدم ضده!* مكة المكرمة- السعودية
مقالات
الناهون عن العدل!
17-04-2016