للتربوي الدكتور محمد جواد رضا مقولات ثمينة وجميلة عن دور الجامعة في صناعة المثقفين والمبدعين وقادة المجتمع. ولعل تاريخ هذا المربي الفاضل ومسيرته العلمية وجهوده الدؤوبة في تكريس هذا الفكر التربوي النيّر لا يخفى على أحد، تماماً كما لا يخفى على أحد ما خاضه من صولات وجولات ومعارك للدفاع عن رؤاه وتطلعاته، سواءً من خلال مؤلفاته أو محاضراته العامة ولقاءاته الإعلامية.
آخر اللقاءات الصحافية مع د. محمد جواد رضا أجريت مطلع العام الحالي، وجاءت اجاباته لتعيد وتذكّر بآرائه حول الدور الحقيقي للجامعة، وشرط كونها حاضنة وراعية للعقول والمواهب، والبيئة المؤهلة لتخريج القادة والمؤثرين والطامحين للتغيير والتطوير، وليست مؤسسة أو مكاناً لتعليم المهن والحِرَف. وعليه فالجامعة يجب ألا يدخلها إلا المتميزون ونخبة الطلبة، أما تعلم الحرف والمهن – وهي أيضاً خدمات أساسية ومهمة للمجتمع – فيمكن للمعاهد التطبيقية والمهنية أن تقوم بهذه المهمة. ثم يعرّج الدكتور على دور آخر مهم للجامعة، وهو تنمية وتكريس البعد الأخلاقي لدى طلبة الجامعة واعتبار هذا البعد معياراً أساسياً لصحة المجتمع ورقيه. وقد أعطى مثالاً تطبيقياً على تجربة خاضها هو شخصياً إبان عمله في جامعة الكويت، حين أصدر بياناً تنبيهياً لمحاربة الغش في الاختبارات سماه "عهد شرف"، يذكّر فيه الطلبة بالقيمة الخلقية للأمانة والضمير ودورها في رفع الضرر عن الناس والمجتمع كافة. إذ ما قيمة أن يكون الإنسان مهندساً ماهراً أو طبيباً ممتازاً دون التزامات أخلاقية نحو مجتمعه. ومن غشّ ليصبح مدرساً أو مهندساً أو طبيباً بالحيلة، فبأي معيار أخلاقي يمكن أن يخدم هذا المجتمع؟ تذكرتُ هذه الإشارات لأستاذي الفاضل محمد جواد رضا وأنا بصدد قراءة خبر عن موقف جامعة الكويت من تحديد أعداد المقبولين للعام الدراسي المقبل، الغريب في الخبر هو وقوف وزير التربية منفرداً برأيه ضد إجماع أعضاء المجلس الأعلى للجامعة، الذين أجمعوا على رقم محدد للمقبولين في جامعة الكويت بما يتناسب وطاقتها الاستيعابية، بينما الوزير الجديد يصرّ على (البساط الأحمدي) دون تحفظ عن الأعداد المقبولة. وبعيداً عن الخوض في مخاوف الوزير من الضغوط النيابية ومن اهتزاز الكرسي الذي لم يهنأ بالجلوس عليه بعد، نطلق علامة تعجب حول الجودة المتوقعة لمخرجات مستقبلية بهذه العشوائية والتخبط، وعلامة تعجب أخرى حول مفهوم "الجامعة للجميع" الذي ما يزال صامداً وراسخاً! أما بقية الخبر فتقع ضمن المضحك المبكي الذي لا يثير الدهشة بقدر ما يكرّس الشعور بالمرارة واليأس، إذ يبدو أن من يقرر مصير الجامعة في النهاية هو اتحاد الطلبة والحيتان التي تقف وراءه، وهذا أمر معروف ومطّرد على مرّ الحدثين! وها هو ممثل الاتحاد يرفع فزّاعة "نواب مجلس الأمة" في وجه الوزير الذي أُسقط في يده، بل يهدده "باتخاذ موقف حازم" وبأن "القرار لن يمرّ مرور الكرام" وبأنه "على المليفي أن يتحمل مسؤولية ذلك القرار"! وغيرها من خطب الفتوات ولغة "اخذوهم بالصوت..." التي ستؤتي ثمارها قريباً جداً وبأسرع مما تتوقعون! وبعيداً عن نقد عقلية "الجيل الصاعد!" وتفنيد رؤاهم "النيّرة" حول الارتقاء بجامعتهم ، يبدو لي أن "ميثاق الشرف" الذي تبناه المربي الفاضل د. محمد جواد رضا قد أبلته رياح الأيام وصوّحت به الصروف. والنتيجة تلك الأطنان من الأغذية الفاسدة، وأجيال من الأبناء يتخرجون من المدارس دون علم، وجيوش من الموظفين بإنتاجية متدنية وبطالة مقنعة، ومكاتب للمحاماة والطبابة والاستشارات وجدت للتكسّب والربح من وراء آلام الناس وحاجاتهم، دون أن تقدم المقابل المفيد أو الناجع! وأخيراً وليس آخرا تخريج كوكبة من المشتغلين بالرقية الشرعية وتفسير الأحلام وفك السحر وطرد الجن! فيا أستاذي الفاضل، سقى الله تطلعاتك وآمالك التي ذهبت أدراج الرياح، فبعد ما ينوف على الأربعين عاماً، ما تزال جامعة الكويت هي الجامعة الوطنية الوحيدة واليتيمة، وما تزال على "طمام المرحوم"!
توابل - ثقافات
أي إنسان تصنعه الجامعة؟!
17-04-2016