لقد حان الوقت لمواجهة حقيقة مفادها أن البلدان الواقعة على المحيط الخارجي لأوروبا لابد أن تعمل على تقليص ناتجها المحلي الإجمالي الاسمي حتى تتمكن من استعادة قدرتها التنافسية، والسؤال الوحيد المطروح الآن هو ما إذا كان هذا سيؤدي إلى إسقاط اليورو أيضاً.
«إن المخاطر لا تحيق باليورو، بل بالموارد المالية العامة للدول الأوروبية، كل منها على حِدة». لقد أصبحت هذه المقولة مسموعة في كل مكان اليوم، لكنها مقولة غير صادقة في واقع الأمر، وإن اليورو ذاته في خطر، لأن البلدان التي تمر اليوم بأزمة كانت في السنوات الأخيرة تدير مطابع النقود في منطقة اليورو لأوقات إضافية.والواقع أن ما يقرب من 90% من ديون إعادة التمويل المستحقة على البنوك التجارية في مجموعة البلدان التي تتألف من اليونان وأيرلندا والبرتغال وإسبانيا لدى بنوكها المركزية الوطنية خدمت كوسيلة لشراء تدفقات صافية من السلع والأصول من بلدان أخرى في منطقة اليورو. وكان ثلثا قروض إعادة التمويل داخل منطقة اليورو موجهة إلى هذه البلدان الأربعة، رغم أنها تمثل 18% فقط من الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو، بل إن 88% من عجز الحساب الجاري لدى هذه البلدان الأربعة كانت تمول طيلة الأعوام الثلاثة الماضية عن طريق تمديد الائتمان داخل نظام اليورو.وبحلول نهاية عام 2010، بلغت قروض البنك المركزي الأوروبي، التي نشأت في الأساس من البنك المركزي الألماني، نحو 340 مليار يورو، ويشمل هذا الرقم اعتمادات البنك المركزي الأوروبي التي مولت هروب رؤوس الأموال من أيرلندا في عمليات إنقاذ بلغت في مجموعها 130 مليار يورو على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، ولقد مكنت برامج الإنقاذ التي نفذها البنك المركزي الأوروبي شعوب البلدان الواقعة على المحيط الخارجي للاتحاد الأوروبي من الاستمرار في العيش بما يتجاوز مواردها، كما مكنت أصحاب الأصول الأثرياء من نقل ثرواتهم إلى أماكن أخرى.وقريباً ستستنفد القدرة على مواصلة هذه السياسة، ومع تدفق أموال البنك المركزي من اليونان وأيرلندا والبرتغال وإسبانيا إلى البلدان الرئيسة في منطقة اليورو فإنها تزاحم على نحو متزايد الأموال التي تجمعت من خلال عمليات إعادة التمويل هناك، وإذا استمر الأمر على نفس المنوال لعامين آخرين، كما كانت الحال طيلة الأعوام الثلاثة الماضية، فإن المخزون من قروض إعادة التمويل في ألمانيا سيختفي بالكامل.والواقع أن «دويتشه بنك» توقف بالفعل عن المشاركة في عمليات إعادة التمويل، وإذا خرجت البنوك الألمانية من مجال إعادة التمويل فإن البنك المركزي الأوروبي سيفقد سيطرته المباشرة على الاقتصاد الألماني، والتي تعود عليها من خلال سياسة أسعار الفائدة. وآنذاك فإن المعدل الرئيسي لإعادة التمويل سيكون هو المعدل الذي تسحب به البلدان الواقعة على المحيط الخارجي للاتحاد الأوروبي أموال البنك المركزي الأوروبي لتمويل عمليات الشراء في قلب أوروبا، والتي ستشكل في النهاية المصدر لكل الأموال المتداولة في منطقة اليورو.إن العجز الهائل في الحساب الجاري في اليونان وأيرلندا والبرتغال وإسبانيا- والهجرة الجماعية لرؤوس الأموال من أيرلندا بشكل خاص- ما كان ليتأتى من دون تمويل البنك المركزي الأوروبي. وفي غياب الأموال الإضافية التي تخلقها البنوك المركزية في هذه البلدان الأربعة بما يتجاوز احتياجاتها للتداول الداخلي، فإن العجز التجاري ما كان ليصبح مستداما، وما كانت البنوك التجارية في هذه البلدان لتصبح قادرة على دعم أسعار الأصول لديها (التي تتألف في الأغلب من سندات حكومية).ثم في العام الماضي، ومع نفاد الأدوات التي يحتاج إليها البنك المركزي الأوروبي لمنع البنوك الأوروبية المتعثرة من التعجيل بإحداث أزمة مالية، تم الاتفاق على التمويل الإضافي، ومن المفترض بداية من عام 2013 فصاعداً أن تتولى آلية الاستقرار الأوروبي هذه المسؤولية، وقد يعمل هذا على التخفيف من بعض الضغوط، ولكنها لا تعمل إلا على تحويل المشكلة من أموال الإنقاذ لدى البنك المركزي الأوروبي إلى مجموعة الدول، والواقع أن آلية الاستقرار الأوروبي تشكل وسيلة أكيدة لتركيع أوروبا، لأن استمرار عمليات الإنقاذ يعني استمرار العجز في الحساب الجاري لدى اليونان وأيرلندا والبرتغال وإسبانيا، واستمرار ديونها الخارجية في النمو. وفي نهاية المطاف، سيصبح الاستمرار في تحمل هذه الديون في حكم المستحيل.والاستثناء الوحيد في هذه الحالة هو أيرلندا، التي لا تعاني نقص القدرة التنافسية، بل هروب رؤوس الأموال، فهي الدولة الوحيدة التي خفضت أسعارها وأجورها، ومن المرجح أن يتحول عجز الحساب الجاري لديها إلى فائض قريباً. وعلى النقيض من ذلك، لايزال العجز الخارجي لدى إسبانيا أعلى من 4% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين بلغت نسبة العجز الخارجي البرتغالي واليوناني 10%، وهي نسبة فلكية.إن الجهود التي تحاول أوروبا بذلها في البرتغال واليونان تذكرنا بالجهود العقيمة التي بذلت على مدى العقود الماضية لإبقاء أسعار الصرف بعيدة عن مستوى سعر توازن السوق، ولقد احترقت بعض البنوك المركزية، مثل بنك إنكلترا، في حربها الفاشلة التي خاضتها ضد جورج سوروس في عام 1992؛ وعندما بات من الواضح كم الأموال المطلوب لتحريك السوق، أصبحت هذه السياسة في طي النسيان.وباستثناء الصين فإن البنوك المركزية لم تعد تتدخل لحماية عملاتها، وستتضرر أوروبا أيضاً إذا استمرت في محاولاتها لدعم أسعار الأصول على نحو مصطنع في البلدان الواقعة على المحيط الخارجي، ذلك أن المبالغ المطلوبة للقيام بهذه المهمة قد تصل في النهاية إلى تريليونات، وفقاً لتقديرات «سيتي بنك»، وهذا من شأنه أن يحطم أوروبا.وبعيداً عن عملية إعادة الهيكلة المالية، التي باتت تشكل أهمية حاسمة، فلابد أن تصبح اليونان والبرتغال أرخص حتى يتسنى لها أن تستعيد قدرتها التنافسية، وتفترض التقديرات بالنسبة إلى اليونان أن الأسعار والأجور لابد أن تهبط بنسبة 20% إلى 30%، ولن يختلف الأمر كثيراً بالنسبة إلى البرتغال.وإذا كانت هذه الدول تفتقر إلى الإجماع السياسي الذي تحتاج إليه لتنفيذ هذه المهمة العصيبة، يتعين عليها لمصلحتها الشخصية أن تفكر في ترك منطقة اليورو مؤقتاً حتى يتسنى لها خفض قيمة عملاتها. ولن تكتب النجاة للنظام المصرفي في هذه الدول من دون مساعدة، وهذا يعني ضرورة إعادة توجيه وتركيز عمليات الإنقاذ التي يتولاها الاتحاد الأوروبي وفقاً لهذا.لكن الاقتصاد الحقيقي في هذه البلدان سيستفيد من إجازة مؤقتة من منطقة اليورو، ومن ناحية أخرى فإن خفض القيمة داخل منطقة اليورو في هيئة انكماش، من شأنه أن يدفع أجزاءً ضخمة من الاقتصاد الحقيقي إلى الديون المفرطة، لأن قيمة الأصول فقط هي التي ستنخفض، ولن تنخفض قيمة الديون المصرفية.ولا أظن أن إنشاء وكالة للخصخصة المستقلة الانتقالية كما اقترح جان كلود يونكر لسداد ديون اليونان فكرة جيدة، فهي أولاً لن تهدف في أفضل الأحوال إلا إلى حل مشكلة الديون؛ ولكنها لن تعمل على زيادة القدرة التنافسية. وثانيا، أثبتت تجربة ألمانيا مع مثل هذه الوكالات أنه من المستحيل بيع أجزاء ضخمة من الاقتصاد في نفس الوقت.لقد حان الوقت لمواجهة حقيقة مفادها أن البلدان الواقعة على المحيط الخارجي لأوروبا لابد أن تعمل على تقليص ناتجها المحلي الإجمالي الاسمي حتى تتمكن من استعادة قدرتها التنافسية، والسؤال الوحيد المطروح الآن هو ما إذا كان هذا سيؤدي إلى إسقاط اليورو أيضاً.* هانز فيرنر سن | Hans-Werner Sinn ، أستاذ الاقتصاد والتمويل الحكومي بجامعة ميونيخ، ورئيس معهد إيفو للبحوث الاقتصادية (Ifo).«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
هل نودع اليورو؟
17-04-2016