من قتل فهد بورسلي؟ 1 – 3
عندما يموت شاعر وهو في الثانية والأربعين من العمر، وقد اكتنفت مسيرة حياته المنعطفات والمزالق، وشابها الكدر، واندست في تفاصيلها الأسرار والألغاز، لا بد أن يثور السؤال: ما الذي قتله؟!نعم، ما الذي قتل فهد بورسلي، الشاعر الذي أتلفه الشعر وأرهقه وذهب بعقله؟!
مَن يعيد قراءة شعر فهد بورسلي بعد مرور ما يقارب نصف قرن على رحيله يشم رائحة شواء، ووجدان يحترق، وجحود، وصفحات لم تُطوَ، ومَظْلَمة لم تُرد.بين يدي مطبوعتان من تراث الشاعر، الأولى بعنوان (مقتطفات من ديوان بورسلي)، طُبعت عام 1964م في مطبعة مقهوي، ويبدو أنها من إعداد الشاعر نفسه واختياراته – قبل وفاته بأربع سنوات – وهذا يتضح في التقديم الذي مهره الشاعر بتوقيعه. والثانية بعنوان (ديوان شاعر الكويت الشعبي فهد راشد بورسلي) طبعة ثانية، مطبعة حكومة الكويت، عام 1978م. والديوان من جمع وإعداد وسمية فهد بورسلي ومراجعة وتقديم أحمد البشر الرومي. إن الناظر في هذا التراث تتراءى له أول ما تتراءى تلك الروح القلقة المستفزة التي لم يقر لها قرار، وتلك النفس الموزعة بين الألم والشكوى والشعور بالمرارة والخذلان، ويتراءى له الضمير المعذب الذي أثقلته هموم الناس وراودته عن نفسه، فغدا ضميراً جمعياً ذا لسان قاطع كحد السيف يودي بصاحبه إلى المهالك ويجره نحو غيابات المرض والجنون. ووراء كل هذا وذاك تتراءى سمات نفسية فيها من ملامح التهافت والهشاشة، والرهافة أمام الجمال والأنوثة الغامضة المُغيبة مالا تخطئه بصيرة المتأمل.ورغم إعادة النظر مرة ومرات في هذا التراث المبعثر إلا أن فهد بورسلي يظل غامضاً وعصياً على الفهم، إذ ما استطاعت ابنته جامعة ديوانه ولا مُقدم الديوان المؤرخ أحمد البشر الرومي الإعانة على إضاءة سيرة حياة الشاعر، أو إماطة اللثام عن منعطفات حياته الغرائبية المثيرة للجدل. فما قدمه الاثنان لا يتجاوز تسريب النزر اليسير عن سيرته في عمومها دون الدخول في ما وراء العموم والمتداول، ودون التعليق على المنعطفات المفصلية في تلك السيرة ، ناهيك عن الاعتراف بحجب وتغييب كم لا يُستهان به من نصوص الشاعر! ولعل أمر التمويه والتشويش والتصرف بمفردات حياة الشاعر من قبل موثقي سيرته بات أمراً مشاعاً ! فبمقارنة سريعة بين المطبوعتين سالفتي الذكر يتضح التدخل في تغيير بعض المعلومات، فحين اختار الشاعر في المطبوعة الأولى أن يضيء بعض نصوصه بعناوين اعترافية من مثل: (قالها وهو في السجن)، و(في السجن)، و(في المصح)، و(قال لما أُدخل في ملجا الأمراض العقلية)، نجد المشرفين على إخراج المطبوعة الثانية عام 1978م يجيزون لأنفسهم حذف هذه المعلومات المهمة أو استبدالها بأخرى كاستبدال (المستشفى) بـ(السجن)… إلخ، غير مدركين لأهمية المعلومة الصحيحة في إثراء التجربة الشعرية وإعطائها بعدها الإنساني والفني.ويحق للمتابع في هذا السياق أن يستعيد السؤال حول مصير هذا الشاعر المترنح ما بين "السجن" و"مصحة الأمراض العقلية" أو "الملجا" كما يرد في نصوصه، حاملاً عذاباته وهذيانه وتوسلاته وضعفه الإنساني، ومتوسداً ضميره المثقل بالهم الجمعي حتى ناء بحمله… ما الذي قتله؟ هل قتله القهر؟ أم التنكر والجحود؟ أم الظلم؟ أم الاضطهاد الاجتماعي والسياسي؟ أم تراها لوثة الموهبة وثمنها الباهظ الذي يُدفَع أعصاباً مُرهَقة وحطاماً بشرياً، ونهاية غامضة ملتبسة بموت غامض.هذا وللحديث بقية.(*) من مدونتي عين الصقر