أرملة زرياب
تأليف: بلقيس الملحمالناشر: الدار العربيَّة للعلوم - ناشرون
توسّع الكاتبة السعوديَّة بلقيس الملحم مكاناً واسعاً فيها لتنزله امرأة عراقيَّة ترثي ولداً وزوجاً وحبيباً ووطناً بات لا يقيم إلاّ في الأغاني وفي نشرات الأخبار اليوميَّة. استطاعت امرأة سعوديَّة أن ترتدي حزن امرأة عراقيَّة إلى حدّ يوهم بأنّ بلقيس وضعتها أمّها على ضفاف دجلة وبذر لها هواء بغداد القمح على كفّه.«أرملة زرياب» عنوان موفّق لكتاب حزين، فرحيل زرياب المغنّي، كنار النهرين، يعني انتحار الفرح قفزاً عن شرفات عراقيَّة شاهقة، كما يعني أفول زمن كان أكثر من تراب ينبت سنابل الفرح ومجيء زمن آخر موشوم بالدموع والدماء، لا دقيقة فيه يتَّسع صدرها لابتسامة. ونساء العراق كلّهنّ أرملة تركها زريابها قسراً حين كان العزف الأخير على عوده برصاصة ذهبت بالعود والعوَّاد واستقرَّت في حنجرة المغنّي معطّلة ألف عرس وعرس.قساوة الصورة«أرملة زرياب» باقة قصص قصيرة لا يكاد بساط السرد يُمَدّ فيها ليُطوى، ولا تكاد شخصيّاتها تبدأ الكلام لتطويه اقتضاباً، فالمجال يضيق بالحبكة، والواقع المؤلم ينشر مأساته على حبال الكلمات فيأتي بمرارته وقساوة صوره وأحداثه طاغياً على ما يفترض أن يكون فنّيًّا في القصّة. فمن الصعب جدًّا أن تتحوَّل الجروح الطازجة والدموع التي لم تجفّ بعد على الخدود فنّاً. لا مكان عراقيّاً يغيب عن نصوص بلقيس فكأنّها تضمّ جغرافيا العراق وتعانقها عناقًا طويلاً مجدّلة فوق محبرتها شعر دجلة الطويل. وكذلك تحضر الأسماء، ويحضر التاريخ ناشراً وجوهه في فضّة مرايا الحاضر، فبغداد الجريحة أيّام الخليفة المنصور تعاد بآلامها ورمادها اليوم، ويبدو العراق وطناً بلا نبيّ، سائباً، يستوطنه الموت الشرس الذي يطارد أناساً لم يولدوا بعد، يطارد أجنَّة، ويطارد أطفالاً لا يزالون أفكاراً وأحلاماً في خاطر أمهاتهم المحتمَلات وآبائهم المحتمَلين. ولا ترى بلقيس غازي العراق سوى هولاكو جديد، والسفّاح يسقطه سفّاح، فتتغيّر المقصلة ولا يتغيَّر المظلومون المأخوذون سلخاً عن صدر الحياة، رغماً عن رغباتهم وأحلامهم الكثيرة.ألموت سيّد الموقف في القصص العراقيَّة الكئيبة. والعراقيّات ندّابات «حوَّلن عذاباتهنّ إلى أبيات شعر حزين» (ص.75). صبايا يعتقلن، ويصرن موائد شهيَّة تحاول إشباع نهم الغزاة الذين لا يرويهم اغتصاب الأرض، إنّما يريدون اغتصاب من عليها أيضاً «تبكي أخاها الذي تعرّى لهم أيضاً في أبو غريب» (ص.22). ونساء ينتظرن رجالاً لن يعودوا، فالحرب العراقيَّة لا يشبع نارها رجال، وحسناوات في انتظار يوم العرس فيلبسن ثياب الزفاف في وداع العريس قبل أن يحين موعد العرس... يكاد يكون الموت بطل القصص البلقيسيَّة كلها التي أتت مغزولة على نول العراق أيّام الإستقالة القسريَّة من الحياة. لا شخصيَّة تفوق الموت حضوراً. هو الرابط الخفيّ الظاهر بين النصوص كلّها، هو الذي يوشك أن يجعل هذه القصص القصيرة قصَّة واحدة بمشاهد متعدّدة. لم تستطع بلقيس لجمه، أو إبعاده عن نصّ، وقحٌ هو يمدّ يده طويلة إلى سلّة الكلمات ويمنع وصول شخصيَّة، ولو واحدة، إلى ساحة القصَّة تبشّر بالحياة، أو تترك طاقة صغيرة يطلّ منها قمر صغير يحترف الأمل والرجاء.ليس العراق في نصوصها وطناً عاديّاً، إنّما غدا مرثيَّة طويلة، وأمسى العراقيّون بشراً لا يعرف الواحد منهم كم هي حصَّة الحياة منه، وكم هي حصَّة الموت. الحياة العراقيَّة اليوميَّة حاضرة على امتداد القصص، والحوارات باللّهجة العراقيَّة جعلت النصّ أكثر إيهاماً بالحقيقة، فكأنّنا أمام مشاهد حيَّة أمينة للواقع، وفيّة لوجع الناس. صحيح أنّ القصص بمفهومها الأدبيّ فنّ، إنّما في «أرملة زرياب» هي فنّ وشيء آخر؛ هي مزيج من خيال وحقيقة، ولربّما أخذت الحقيقة الهامش الأكبر لأنّ المأساة تفرض نفسها بقوَّة على النصّ. ويصل الأمر إلى تحوّل بعض القصص تقارير يوميّة عن حياة العراقيّين موزّعين أوقات أيّامهم بين الصلاة والأكل والعمل والهروب من الموت وإليه، ومن المنافي وإليها. وإذا كان الموت هو الأقوى والأكثر حضوراً فإنّ بلقيس تظهر رغبة العراقيّين في الحياة وإن كانت ممزوجة بالخيبة «كلّنا يريد الحياة، فربّما يستجيب القدر» (ص.69). وقلم صاحبة «أرملة زرياب» يعرف كيف يكون عاطفيّاً وشاعريّاً بين الحين والآخر وتبدو هذه المعرفة في عشرات التعابير مثل: «فوضى الملح في أعصاب أنثى... تمضغ وجه الشمس أمامك... جسد تضاريسه أشبه بالمدينة التي ولدنا فيها...»نصوص مدماةاستطاعت بلقيس الكتابة بقلم عراقيّ الإنتماء، وأتت جملها بسيطة لا معقّدة كسياسات عراق الحرب وأهله، وظهرت شخصيّاتها ذات نبرة موجوعة بتواصل، وتتلاءم مع إيقاع الحياة التي يحياها العراقيّون وإيقاع الموت الذي يموتونه. وربّما المفارقة الوحيدة، التي تميّزت بها دون غيرها من الذين يدوّنون آلام العراق فنّاً وإبداعاً، هي أن امرأة لم يجد عليها العراق بلحمها ودمها نجحت في أن تكون عراقيَّة وتتقمَّص ألم امرأة عراقيَّة من الصعب جدّاً أن تتقمّصها امرأة أو رجل. وربّما هذا أجمل شكل من أشكال الإنتماء إلى الإنسان بصرف النظر عما فيه من عرق ولون وثقافة ودين وهوى... وبدت عناوين القصص لافتة، فكأنّها قبّعات تحاول ردّ شمس الحزن عن النصوص المدمّاة. واختيار العناوين بعضٌ من فنّيَّة النصّ، إذ لا ينفصل عنوان عن نصّه وفي بعض الأحيان يكون هو الجزء الأهمّ من النصّ. ومن خلال بعض النصوص أظهرت بلقيس البعد الحقيقي والصحيح للعراق، من خلال مباركتها الإنفتاح والتواصل العميق بين مكوّنات النسيج العراقي كلّها ، لا سيّما بين السنّة والشيعة والأكراد والمسيحيّين. فزواج المسلم من كرديَّة هو حالة عراقيَّة سويَّة، وإن رفضها المتعصّبون الذين بتعصّبهم يبعثون العراق نحو عراقات كثيرة. وبهذه الرؤية للمجتمع العراقي يمكن التأسيس لوطن واحد متعدّد لا تتحوّل تعدّديَّته نقمة يدفع ثمنها الجميع غالياً. ففي «أرملة زرياب» موقف، سواء من الغزاة ومن هولاكو الجديد، أو من تعاطي العراقيّين مع بعضهم البعض، الأمر الذي يجعل نصّ بلقيس يُدْرَس أيضاً على مستوى الفكر العراقي ببعدَيْه الوطني والإنساني، وربّما ببعده الديني أيضاً.فعسى ألاّ يبقى القبر العراقي المكان الوحيد الذي يستضيف إلى الأبد، وأن تختصر أرملة زرياب لتعود امرأة واحدة.