يعد يزيد بن ابي سفيان واحدا من قادة فاتحي الشام الاكفاء اختاره أبو بكر لهذه المهمة الجليلة وقد أسلم في فتح مكة في العام الثامن من الهجرة، وهو أخو معاوية بن أبي سفيان من أبيه، وأخو أم المؤمنين أم حبيبة زوج النبي (صلَّى الله عليه وسلَّم)، شهد مع الرسول غزوة حنين، وأعطاه من غنائمها مئة من الإبل، وأربعين أوقية من الفضة وفي خلافة أبي بكر الصديق عقد له مع أمراء الجيوش التي بعثها لفتح الشام.

Ad

كان الصحابي الجليل خالد بن سعيد بن العاص أول قائد عقد له أبو بكر الصديق لواء فتح الشام، وأمره بأن يعسكر بجيشه في تيماء شمالي الحجاز، وألا يقاتل إلا إذا قوتل وكان الخليفة يقصد من وراء ذلك أن يكون جيش خالد بن سعيد عونا ومددا عند الضرورة، وأن يكون عينه على تحركات الروم، لا أن يكون طليعة لفتح بلاد الشام لكن «خالد» اشتبك مع الروم التي استنفرت بعض القبائل العربية من بهراء وكلب ولخم وجذام وغسان لقتال المسلمين، فهُزم هزيمة مروعة في مرج الصفر، واستشهد ابنه في المعركة، ورجع بمن بقي معه إلى ذي مروة ينتظر قرار الخليفة أبي بكر الصديق.

ولما وصلت أنباء هذه الهزيمة إلى المدينة فزع الصديق وأهمّه الأمر، فجهَّز أربعة جيوش إلى الشام بعد أن استشار أهل الرأي والخبرة من الصحابة، واختار لها أكفأ قادته وأكثرهم معرفة بأمور الحرب وخبرة بميادين القتال، وحدد لكل جيش وجهته ومهمته التي سيقوم بها، وكان الجيش الأول تحت قيادة يزيد بن أبي سفيان، ووجهته البلقاء (المملكة الأردنية الهاشمية)، وكان الجيش الثاني بقيادة شرحبيل بن حسنة، ووجهته منطقة بصرى.

وجعل أبو بكر الصديق قيادة الجيش الثالث لأبي عبيدة بن الجراح، ووجهته منطقة الجابية، وجعل له القيادة العامة عند اجتماع الجيوش الأربعة. أما الجيش الرابع فكان بقيادة عمرو بن العاص، ووجهته فلسطين.

كان يزيد بن أبي سفيان أول أمراء الشام خروجا، فغادر المدينة في (23 من رجب 12هـ = 3 من أكتوبر 663م)، وخرج أبو بكر يمشي معه، ويزيد راكب في جنده فقال له: يا خليفة رسول الله إما أن تركب، وإما أن تأذن لي فأمشي معك، فإني أكره أن أركب وأنت تمشي، فقال أبو بكر «ما أنا براكب وما أنت بنازل، إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله» ثم أوصاه بوصية جامعة، تبين سلوك الفاتحين المسلمين وأخلاقهم في التعامل مع أهالي البلاد التي سيفتحونها، جاء فيها:

«يا يزيد إني أوصيك بتقوى الله وطاعته، والإيثار له والخوف منه، وإذا لقيت العدو فأظفَرَكُم الله بهم، فلا تغْلُل، ولا تمثل، ولا تغدر، ولا تجبن، ولا تقتلوا وليدا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تحرقوا نخلا، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تعقروا بهيمة إلا لمأكلة، وستمرون بقوم في الصوامع يزعمون أنهم حبسوا أنفسهم لله، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له».

سار يزيد بجيشه من «ذي مرة» وهي من أعراض المدينة في ثلاثة آلاف جندي ثم أمده أبو بكر الصديق حتى بلغ جيشه سبعة آلاف وخمسمئة، واتجه بهم حتى وصل البلقاء، كما أمره الصديق ثم توالى وصول الجيوش الثلاثة إلى جنوبي

الشام، وبلغ مجموعها نحو 24 ألف مقاتل، لكنها لم تستطع التوغل في بلاد الشام بعد أن احتشد لهم قيصر الروم بكل ما يملك من قوات وعتاد، ولما رأى قادة الجيوش الأربعة ذلك بعثوا إلى الصديق يطلبون منه المدد، فأعانهم بمدد من عنده، لكن الموقف في جبهة القتال لم يتغير، فهال الخليفة أن تبقى الأوضاع في الشام من دون تحرك، وأن يعجز القادة المجتمعون عن تحقيق النصر في أول لقاء حاسم مع الروم، فاستدعى خالد بن الوليد من جبهة العراق وأمره بأن يأتي بنصف جيشه معه ويتولى القيادة العامة في الشام.

جاء خالد بن الوليد إلى الشام في تسعة آلاف جندي بعد أن اجتاز صحراء

السماوة، في واحدة من أعظم المغامرات العسكرية في التاريخ جرأة وإقداما، وتولى القيادة العامة للجيوش الأربعة، وبدأ في إعادة تنظيمها على نحو جديد، ونجح في تحقيق النصر ثم اشترك مع يزيد بن أبي سفيان في فتح دمشق سنة (14هـ = 635م)، وكان على كراديس الميسرة في معركة اليرموك وبعد أن تحقق النصر في اليرموك، وأصبح المسلمون سادة الشام قام أبو عبيدة بن الجراح بتوزيع الشام على قادته، وكان يتولى السلطة العامة على جيوش المسلمين بعد عزل خالد بن الوليد، فاستخلف يزيد بن أبي سفيان على دمشق، وعمرو بن العاص على فلسطين، وشرحبيل بن حسنة على الأردن.

ومن دمشق خرج يزيد بن أبي سفيان غربا إلى ساحل الشام، ففتح صيدا وعِرْقَة وجبيل وبيروت، وكان على مقدمته أخوه معاوية بن أبي سفيان، وكان كلما فتح مدينة جعل لها حامية تكفيها وفي العام الثامن عشر من الهجرة رُوِّع الشامُ بوباء مهلك عُرف بطاعون عمواس أفنى أعدادا هائلة من المسلمين، ومكث عدة أشهر، ومات فيه نحو خمسة وعشرين ألفا من المسلمين، وقد بدأ الوباء من عمواس، ثم انتشر حتى عمَّ الشام كلها.

ومات في هذا الطاعون أبو عبيدة بن الجراح أمير أمراء فتح الشام، وله من العمر ثمانية وخمسون عاما، ومعاذ بن جبل، والفضل بن العباس بن عبد المطلب، وشرحبيل بن حسنة، وسهل بن عمرو. ولما أتى إلى عمر بن الخطاب خبر وفاة أبي عبيدة كتب إلى يزيد بن أبي سفيان بولاية الشام مكانه، لكن «يزيد» مرض وهو يحاصر قيسارية فانصرف إلى دمشق حيث تُوفِّي بها في آخر سنة (18هـ = 639م)، فكتب عمر إلى معاوية بن أبي سفيان بتوليته ما كان يتولاه أخوه يزيد.