Ad

نواجه اليوم هروباً جماعياً لشعب ظلّ على مدى التاريخ متشبثاً بأرضه مفضلا جحيمها على جنات الآخرين، شعب ردّد مع الزعيم مصطفى كامل قوله «لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون»، وزها بتمصير الآخرين الغرباء والأجانب الأتراك والأرمن والأكراد واليونانيين، فما الذي حدث لكي ينقلب الشعب على ذاته وثوابته وتراثه ولكي يفكر ويخطط ويسعى هكذا إلى الهروب الكبير والجماعي من بلاده؟

«الفقر في الوطن غربة» مقولة للإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه وبسبب هذه الغربة يخطّط الشعب المصري للهجرة والفرار من وطنه، وأظنّ البعض قد سمع أو قرأ في الصحف عن محاولة الهروب الجماعية إلى أميركا وتقدّم أكثر من ستة ملايين مواطن مصري بأوراقهم إلى الجهات الرسمية الأميركية مطالبين بفرص للحياة في بلاد العم سام وبالجنسية الأميركية، وأظننا نرى ونسمع بشكل يومي عن الغارقين في البحر المتوسط، وقبل أيام كان الرئيس في زيارة إلى اليونان، وبينما كان يجري مباحثاته ويتحدّث عن نجاحات نظامه كانت السلطات اليونانية تنقذ من الغرق باخرة على متنها أكثر من مئتي هارب ومتسلل أغلبهم من المصريين، وأظننا سمعنا عن اعتقال بعض المصريين المتسللين إلى ناميبيا، وهي إحدى أفقر دول العالم باحثين عن مستقبل لهم، ويذكّرني ذلك الهروب الأخير بالقاص الراحل الصديق محمد مستجاب الذي قرر عندما ساءت أحواله في الستينيات الفرار من مصر والبحث عن فرص أفضل للحياة في قطر عربي آخر، ولمّا كان مفلساً ولا يملك جواز سفر فقد اتجه إلى السودان سيراً على قدميه لكي يُقبض عليه على الحدود ويساق إلى نيابة أسوان متهماً بمحاولة الفرار من البلاد ودخول السودان خلسة، ولكي يسجن لعجزه عن دفع الغرامة.

لكننا نواجه اليوم هروباً جماعياً لشعب ظلّ على مدى التاريخ متشبثاً بأرضه مفضلاً جحيمها على جنات الآخرين، شعب ردّد مع الزعيم مصطفى كامل قوله «لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون» وتمثّل في الشدائد وأيام العسر بقول الشاعر:

بلادي وإن جارت عليّ عزيزة

وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرام

وغنّى في المناسبات والأعياد وطوابير الصباح المدرسية أناشيد «مصر أمّنا وفخرنا وعزّنا- بلادي بلادي- اسلمي يا مصر إنني الفدا... وغيرها» وزها بتمصير الآخرين الغرباء والأجانب الأتراك والأرمن والأكراد واليونانيين، فما الذي حدث لكي ينقلب الشعب على ذاته وثوابته وتراثه ولكي يفكر ويخطط ويسعى هكذا إلى الهروب الكبير والجماعي من بلاده؟

في يناير 1977 انفجرت الانتفاضة الشعبية في القاهرة وبعض المدن المصرية الأخرى بسبب الغلاء وانفلات الأسعار وفرض حظر التجول وإلغاء القرارات الاقتصادية التي أدت إلى انفلات الأسعار، وفي أواخر السبعينيات تحدث السادات عن الرخاء القادم بعد توقيع معاهدة «كامب ديفيد» وبشّر كل مواطن مصري بامتلاك منزل وسيارة وعمل مناسب، ولم يرَ أحدنا الرخاء الذي حلم به السادات وسعى إلى السلام من أجله، ورغم ذلك ظلّ الانتماء سائداً والامتلاء بروح المواطنة يحرك الجميع.

الفقر كما نعرفه، أي قلة الدخل أو انعدامه، لا يقف وراء الهروب الكبير الذي نراه اليوم ولا يقف خلف عبارة «أنا لا أحب مصر» التي نسمعها منطلقة من أفواه الشبان، فقد كان الفقر صديقاً للمواطن المصري منذ أقدم العصور، والمطلع على التراث الشعبي بحكاياته ومواويله وأمثاله يعرف هذه العلاقة القديمة، لكننا نواجه في الأعوام الأخيرة فقراً أشمل وأكبر يضيف إلى قلة الدخل أو انعدامه قلة أو انعدام الأمل والعمل والعدل والصدق وكل عناصر المنظومة الروحية والخلقية التي عاش بها المجتمع المصري آلاف الأعوام، ويكفي أن نشير إلى انعدام الصدق أي الكذب الذي مارسه النظام على مواطنيه على مدى ربع قرن وعبأهم باليأس وكُره الوطن والذات، فالنظام يتحدّث عن المساواة والطهارة واحترام القانون والديموقراطية ومساندة محدودي الدخل ومئات الآلاف من فرص العمل التي أتاحها للشبان، والواقع يكذّب كل هذه الخطب والأحاديث ويثبت أن المجتمع قد انقسم في الأعوام الأخيرة إلى قشرة طافية على السطح تملك كل شيء، وأغلبية مسحوقة سرق منها وطنها ومستقبلها وحلمها وقدرتها على الصبر والصمود.

وأظننا الآن نقف على بوابة شتاء ساخن وعاصف ومواجهات بين النظام وأعوانه وأغلبية المواطنين بسبب انفلات الأسعار وسعي الدولة إلى إلغاء الدعم أو تقليصه ودخول معظم فئات الطبقة الوسطى «أطباء- مهندسين- قضاة- مدرسين- أساتذة جامعات- صحافيين... وغيرهم» في دوائر الفقر والعوز والفاقة، وقد بدأت نذر هذه المواجهات.

* كاتب وشاعر مصري