ستظل التجربة الديموقراطية الكويتية، رغم فرادتها وتميزها الإقليمي، رهينة عوامل الضعف والخلل طالما لم تعرف الأحزاب، بما تمثله تلك الأخيرة من فرص لخلق حال من التنافس حول منطلقات موضوعية وبرامج وأجندات سياسية.
فرغم أن تطورات إيجابية عديدة حصلت في سياق تلك التجربة منذ إعلان الدستور في العام 1962، وتدشين البرلمان الأول في العام الذي تلاه، فإن تلك التطورات لم تُحدث تنمية سياسية حقيقية مطردة في الإطار العام للتجربة، كما أنها جوبهت بسلبيات عديدة في المقابل؛ الأمر الذي أفقدها زخمها، واستقامة تطورها، بل زعزع اليقين فيها، وأبقاها محل شكوك وهواجس.كجسم بلا طاقة، أو عربة بلا وقود، ستظل التجربة الديموقراطية الكويتية، في شقها الإجرائي الممثل بالانتخابات، تمضي بالدفع اليدوي أو القصور الذاتي؛ فتصيب أحياناً قليلة، وتنحرف مرات ومرات عن أهدافها المفترضة، وربما تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، فتخصم من رصيد الحداثة لصالح أسوأ ما في التقليدية من اعتوارات.استطلاعات رأي عديدة جرت وتجري على هامش الحدث الانتخابي المنتظر في السابع عشر من مايو؛ وأسئلة كثيرة وجهت للناخبين المفترضين والناخبات، لكن أحداً لم يكن معنياً بالسؤال عن الذرائع الحقيقية التي تدفع كويتي أو كويتية للإدلاء بصوته أصلاً بالانتخابات، فضلاً عن اختياره لهذا المرشح أو ذاك.وكما استخدم المرشحون الشعارات مستبدلين بها البرامج والمشروعات المقننة والمدروسة، استخدم الناخبون الشعارات مستبدلين بها الأهداف الحقيقية للمشاركة والاهتمام؛ وهي أهداف نعلمها جميعاً، لكن بعضنا يرواغ ويغالي في النفي والتضليل.وسواء كان الحديث معلناً عن «الأخطاء في تقسيم الدوائر»، أو الانتخابات الفرعية، أو شراء الأصوات، أو تدخل الحكومة، أو كان مكتوماً عن الاعتبارات الطائفية؛ فالجميع يعرف ويتواطأ؛ فينكر أنه يعرف أن التنافس سيكون، في شقه الأكبر، على الهوية، وهو أمر ليس أقل بشاعة من القتل على الهوية في الحروب العنصرية البغيضة.«نصف المجلس تشكل تقريباً عبر الفرعيات»؛ ليس المهم مدى الدقة في النسبة التي حسمتها الانتخابات الفرعية، وسواء كان النصف أو أكثر أو أقل من تلك النسبة قد حُسم عبر اختيارات القبائل وتوافقاتها؛ فالأكيد أن المقاعد الخضراء ستُمنح، في قسم منها كبير، لاعتبارات غير سياسية، وبالتالي فانتظروا أثماناً غير سياسية ستدفع لتسديد الاستحقاقات.الداخل إلى المجلس عبر الاعتبار الطائفي أو القبلي لن يكون مضطراً للعمل وفق أجندة سياسية، أو لإصلاح السياسات العامة، أو لتحسين فرص الأجيال المقبلة وتأمين مستقبلها، لكنه سيكون ملزماً بتكريس المعيار الذي أتى به وقاده إلى حيث يجلس في المقعد الوثير وتحت الأضواء... الطائفة أو القبيلة أو كليهما معاً.أُقفل باب الترشيح ليتضح أن أسماء غابت كان جديراً أن تشارك، وحُسم الأمر لأسماء أخرى تقريباً؛ إذ عمدتها القبيلة عبر فرعياتها، وكثيرون يعلمون أن مشاركتها في المنافسة ضرر بالغ في حد ذاته، فما بالكم بفوزها المحسوم سلفاً.بعضهم يرى أن الديموقراطية، في حد ذاتها، نظام فاشل وعقيم؛ إذ تخضع لألعاب حواة السياسة، ويلوثها المال المشبوه، ويسفه خياراتها الإعلام بهيمنته وانحيازاته. وبعضهم الآخر يعاديها معاداة سافرة باعتبارها تكريساً لسلطة العامة والدهماء، وخصماً من قدرة النخبة على التركيز لاجتراح الحلول والمبادرات، التي تحقق المصالح العامة على المدى البعيد وليس شراء رضا الشارع مهما كلف الأمر من أخطاء ومخاطر وخراب.لكن أحداً لم يقل لنا أبداً ما النظام الأفضل، ضمن ما وصل إليه العالم حتى الآن، لإدارة شؤون دولة أو أمة أو جماعة بشرية تبحث عن التقدم بممارسات أكثر ميلاً للرشد والعدل وأقل تأثراً بالأهواء.ستبقى الديموقراطية، بكل مشكلاتها وثغراتها وأخطائها المكلفة، أفضل الحلول البشرية، المجربة حتى الآن، رشداً ونجاعة لإدارة شؤون دولة ما، وستظل الانتخابات الحرة المباشرة أفضل الآليات المعروفة لفرز الفاعلين السياسيين الجديرين بصنع القرار ومراقبة الأداء والمحاسبة العامة حتى إشعار آخر.وبما أن الديموقراطية الكويتية، على فرادتها وتميزها إقليمياً، لم تبتكر آلية أخرى أكثر فاعلية وعدالة من آلية الانتخابات؛ فليس أمامنا سوى تنفيذ تلك الآلية بالحرص والاحترام والكفاءة الواجبة.من دون أحزاب سيرتد الجمهور إلى المنطلقات التقليدية الممثلة في المناطق أو الطوائف أو القبائل، وسيرتد المرشحون، النواب لاحقاً، إلى عصور ماضية يفترض أنها ولت؛ رُفعت فيها بيارق العصبية، وتكرست سمات العنصرية البغيضة.ليس ثم من مفر، اليوم أو غداً أو بعد غد، ستنشأ الأحزاب، سواء احتاج الأمر تعديلاً دستورياً أو تم التوافق على أن الدستور لا يحول دون تكوينها، وحينها ستنتهي مرحلة وتبدأ مرحلة جديدة، ليست كلها نجاحات وازدهار، وليست خالية من الأخطاء والخلل، ولكنها، من دون شك، أكثر قرباً من الحداثة، وأكثر مواكبة لاعتبارات العصر واستحقاقاته.*كاتب مصري
مقالات
ديموقراطية بلا أحزاب
26-04-2008