أينما يحل الكاتب محمد عبد الله السعيد، يثير ضجة ويترك أسئلة وعلامات استفهام كثيرة، هو خصم لدود لـ «المؤسسة»، لذلك ما إن يَعقد تجمعاً أدبياً ويُحقّق فيه النجاح حتى يلجأ إلى آخر. مُغرم بطرح الأسئلة الصعبة، لا سيما تلك المتعلقة بالفلسفة الإسلامية، وتاريخ الفن التشكيلي وتأويل رموزه الكهنوتية، وعلاقتها بالحضارات الضاربة في عمق التاريخ.هي مسائل لايمكن نقاشها في جلسة استرخاء، وفي حضرة طبق شهي أمام شاشة التلفاز.كتابك «كا.. با.. الكتابة» يتحدّث عن الروح/الجسد، ولطخة اللون في اللوحة التشكيلية الحديثة، إلامَ تريد أن تصل؟
قال الأول: «ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله»، وقال الثاني: «ما رأيت شيئا إلا رأيت الله بعده»، وقال الثالث: «ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله فيه». الثلاثة يقولون: «إن الشيء علامة تقول: الله». أما الرابع فقد قال: «عرفت الله بنقض العزائم والهمم»، أي أن الإنسان بحد ذاته علامة دلالتها الله. هل هي سيمولوجيا مبكرة؟ إذاً ماذا نقول عن علم الإشارات الذي وجده علماء الآثار في بقايا الحضارة الأكادية، الخط، اللون، السطح، الحجم، الإضاءة، الفكرة، الكلحة، اللوحة، التمثال، القصة، القصيدة، الحدث السياسي، الاقتصادي، النقود، تلك علامات كلّها، وما تقوله هذه العلامات هي علامات أخرى. هل هو نص ينتج نفسه؟ هذا صحيح والغاية تحويل القارئ إلى علامة مكشوف عنها الحجاب لترى الأشياء علامات، وهل هناك أجمل من سماع ما تقوله الأشياء والدخول في حوار معها؟
بعد إحجام عن النشر لزمن طويل، صدرت لك ثلاثة مؤلفات دفعة واحدة، هل هي ساعة التجلّي، أم خفقة الوجدان العصية على التحكّم؟
أترك هذه الاجابة للزمن.
كتبك الثلاثة تحمل تصنيفاً واحداً، وبخطٍ رفيع أعلى الغلاف «عرفان عقلي» هل هو اتجاه جديد للكتابة؟
نعم ولا، في الوقت نفسه. إذا كان العرفان العقلي هو اعتبار الإنسان علامة، فإن أول من أمتشق القلم في هذا المضمار هم إخوان الصفا. وإذا كان المقصود به السعادة العقلية، فابن سينا عملاق العمالقة في هذا الوادي. على أي حال، إن نموذج نص العرفان العقلي هو الدعاء، وبنية الدعاء موجودة في سورة الفاتحة، والفاتحة موجودة في البسملة، والبسملة موجودة في النقطة التي تحت الباء. في الختام أقول إني أحاول أن أزاوج بين منجزات السيمولوجيا ومنجزات العرفان.
ثمة فارق كبير بين «العرفان» والمعرفة، وكذلك العقل والوجدان، أليس كذلك؟
ثمة حديث قدسي يقول على لسان من جلت أسماؤه: «أنا لا يُستدل علي، لكن يُستدل بي». جاء فريق وقال نحن أهل من «يُستدل علي»، وجاء آخر وقال نحن فريق «يُستدل بي»، أما العرفان العقلي فيقول لا هذا ولا ذاك الطريق. لأنه لا استدلال عقلي دون توفيق وهداية وحول وقوة وكل صفات من جلت اسماؤه. إذن العرفان العقلي يجمع الأمرين العقل والوجدان، العرفان والمعرفة، الاستدلال والكشف وهذا سرّ الجدلية في لغته، لأنّ حقائق الكشف لا يمكن ترجمتها إلا بلغة تنطلق استعارتها من المجرّد إلى المحسوس، فتحاول لغة الاستدلال التي تنطلق من المحسوس إلى المجرد أن تصعد اليها.
إصداراتك الثلاثة تستلزم «حالة» متقدمة جداً من التماهي بين الروح والجسد، وكذلك النص المكتوب.
نصوص العرفان العقلي تستلزم خلع النعلين «إنك في الوادي المقدس طوى».
لك رؤيتك الخاصة في قراءة اللوحة التشكيلية، مارأيك بمستوى النقد التشكيلي في ما يكتب الآن؟
له كلّ التأييد لاسيما إذا كان صادراً من أقلامٍ مارست أصنافاً إبداعية أخرى، فالتشكيل يفتح آفاقاً جديدة للكتابة تساعد الشاعر والسارد إذا أرادا أن يعودا إلى حقلهما الأثير على تجديد لغتهما وصورهما والتقاطاتهما، أكرر له التأييد، وإن كانت القراءة فاقدة للقيمة العلمية في حقل التشكيل فلا بأس، فأغلب الأعمال المعروضة عندنا فاقدة للقيمة الفنية إلا في ما ندر.
من المفترض أنّ العنوان دلالة رمزية شارحة، أي تساهم في تقريب المفهوم، لكن الملاحظ عكس ذلك، إذ إنّ عناوين كتبك ذاتها بحاجة إلى شروحات!
أغلب الكتب العرفانية لا تنطبق عليها هذه الفرضية وإن انطبقت على بعض العناوين فهذا يرجع لزمن صدورها، فإذا كان العرفان في الصدارة فتجد هذه الفرضية مصداقيتها، وفي زمن آخر يكون العرفان مهمشا أو محارباً فتنطبق فرضية أخرى على العناوين.
«ورشة السهروردي» كانت تمارس نشاطها في إطار رابطة الأدباء، ولكن مؤخراً اضطررتم للخروج بسبب خلافات مع الرابطة، ما خططكم المستقبلية، لاستمرار الورشة وممارسة نشاطها؟
للأسف، تم تهديدنا بالشرطة، وقد زعمت الرابطة أننا نعقد اجتماعات مشبوهة! ويحضرها أشخاص مجهولون... فهل نسي أعضاء الرابطة أن الورشة قد أنتجت قبل فترة وجيزة كتاب «الفطم والكتابة»؟ والذي لم يقرؤوه بالتأكيد. كنا ندعوههم إلى محاضراتنا لكنهم كانوا يأبون الحضور ويكتفون بالجلوس في الديوانية.
وهل الدكتور يوسف غلوم أستاذ علم الاجتماع في جامعة الكويت ورئيس تحرير مجلة دراسات اجتماعية مشبوه؟
اذا كانت الدولة لم تره مشبوها، فيكف يرونه هم كذلك؟ وهل الدكتور الزواوي بغوره أستاذ الفلسفة في جامعة الكويت مشبوه؟، وهو المحتفى به في المؤتمرات الفلسفية العالمية؟ أما عن الشقّ الثاني من السؤال فلدينا كتابان مترجمان قيد الطباعة. ثم هناك مسرحية ستعرض بعد شهرين عن آخر فيلسوف إسلامي هو الشيخ أحمد زين الدين الاحسائي، لن يختتم عام 2008 إلا وقد أصدرت عشر كتب بحيل من جلت أسماؤه.
تقول في أحد كتبك: «لقد استوردنا ضياع الغرب وضياع الشرق، لذا كان من الطبيعي أن نستورد الطغيان من الاثنين» هل واقع العرب سيء إلى هذا الحد؟
جاءت هذه الجملة في قراءة للمرحلة التعبيرية في الفن تحت عنوان «على يد المسيح يفكك روو التعبيرية»، وهذا النص نشر في الملحق الثقافي «أصداء» في صحيفة السياسة عام 1994 وواقعنا الحالي أسوأ بكثير من تلك السنوات، فماذا تقول عن مذبحة حرب تموز، وماذا تقول عن مذبحة غزة التي تُجرى الآن.
كنت من المساهمين في تأسيس ملتقى الثلاثاء الأدبي، والآن ورشة السهروردي، وهما تجمعان موازيان للمؤسسات الحكومية، هل لديك مشكلة مع المؤسسة؟
في دول العالم كلّها، المثقف هو مشكلة المؤسسات، ربما الأمر يختلف في أميركا، بسبب دينامية المجتمع الاقتصادية، فقد استطاع هذا المجتمع أن يستوعب المثقفين، وهذا يعود الى أن معيار التقييم هناك يعود للإنتاج لا لشيء آخر، والمثقف كائن منتج وهذه مشكلته.
وحين يكون كذلك فلا بدّ أن يتصادم مع المؤسسة، خصوصاً عندنا حيث تتّصف مؤسساتنا بالبؤس والعقم معاً، مؤسسة قوامها مجموعة من الأحافير تتجمّع حول التلفاز، على أي حال هذا أفضل من أن يكون قوامها مجموعة تلعب القمار وتعقد صفقات الخمور والمخدرات أثناء توزيع الورق.