كان رد الفعل الإيراني غاضباً على تصريحات الطالباني بشأن اتفاقية الجزائر لأنها تعني باختصار التنازل عن جزء من المياه الوطنية العراقية وعن الضفة اليسرى لشط العرب والموافقة على قبول السيادة الإيرانية عليها بموجب ما سمي بخط الثالويك Thalweg.لم يخطئ الرئيس جلال الطالباني وهو السياسي العراقي المخضرم عندما قال إن «اتفاقية الجزائر» التي أبرمت في 6 مارس عام 1975، «ملغاة»، لأن من وقّعها لم يكن إيران والعراق، بل الرئيس العراقي السابق صدام حسين وشاه إيران محمد رضا بهلوي اللذان رحلا إلى «دار الحق»، لكن الاتفاقية بقيت جاثمة في مكانها وربما على الصدور تُستعاد وتُستذكر بين الفينة والأخرى، ولن تُنسى على الإطلاق.
لعل الطالباني نسي موقعه الرسمي، باعتباره رئيساً للعراق، حين «ألغى» فجأة الاتفاقية في جوابه عن سؤال لأحد الصحافيين في مؤتمر دوكان مع مسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان وطارق الهاشمي أمين عام الحزب الإسلامي ونائب رئيس الجمهورية، فلربما كان تأثير العقل الباطن فيه قوياً حيث استعاد لغة المعارض السياسي المعتّق ونستالوجيا الرفض، أيام كان في رحاب دمشق، وفي إطار التجمع الوطني العراقي، الذي اعتبر اتفاقية 6 مارس خيانية وباطلة، ودعا يومها إلى رفضها والعمل على إلغائها.
لكن الطالباني الذي أعلن بشكل عفوي وربما غير مقصود إلغاء الاتفاقية لم يكن يتوقع رد الفعل الإيراني السريع والغاضب الذي جاء على لسان محمد علي حسيني المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، حيث قال: إن إبداء أي وجهة نظر حول إلغاء معاهدة الجزائر لعام 1975 يفتقد إلى الأسس القانونية، لأنها تشكّل حجر الأساس للعلاقة بين البلدين، أما رد فعل منوشهر متكي وزير الخارجية الإيراني فجاء أشدّ صرامة حين وجّه تحذيره ليس للعراق وحده بل طال أيضاً الولايات المتحدة التي طالبها بعدم الدخول في هذه اللعبة من جديد، في إشارة إلى الحرب العراقية-الإيرانية قبل 27 عاماً، مشدداً على أن اتفاقية الجزائر وثيقة رسمية مسجّلة لدى الأمم المتحدة وتتمتع بالقوة القانونية اللازمة ولا مجال للإخلال بها.
وقد اضطر مكتب الرئيس جلال الطالباني في اليوم التالي لإطلاق تصريحه إلى التراجع وتأكيده الالتزام باتفاقية الجزائر واعتبارها نافذة، ولعل ذلك مفارقة تكاد تكون تاريخية بخصوص تلك الاتفاقية التي حملت رئيسي البلاد صدام حسين وجلال الطالباني رغم اختلاف توجهاتهما لنفيها وإعادة العمل بموجبها.
حين مزّق صدام حسين الاتفاقية على شاشة التلفزيون، يوم 17 سبتمبر 1980، فإنه كان يستعد للحرب التي أعلنها بعد خمسة أيام، ولعل مبرراته هي «تغيّر الأحوال بتغيّر الأحكام»، معتقداً أن سقوط الشاه فرصة مناسبة لإلغاء اتفاقية الجزائر واستعادة حقوق العراق التي تنازل عنها، وهو الأمر الذي برره بعض الماركسيين لاتفاقية الجزائر باعتبارها صلح «بريست ليستوفيسك» بين لينين والألمان.
وقد شرح صدام حسين ذلك للسفيرة الأميركية في العراق السيدة أبريل غلاسبي يوم 25 يوليو 1990 عشية غزو الكويت، وذلك حين قال لها: في عام 1974 التقيت ابن الملا مصطفى البارزاني في هذا المكان الذي تجلسين عليه... وكان اسمه إدريس... قلت له سلّم لي على أبيك وانقل له أن صدام حسين يقول ما يلي: إذا حصل قتال عسكري سننتصر... وقلت أتعرف لماذا؟... فحدثته عن توازن القوى بالأرقام والمعطيات، مثلما تحدثت مع الإيرانيين في رسائلي إليهم في أثناء الحرب.
ويواصل حديثه بالقول «لكل هذه الأسباب التي ذكرتها بالإضافة إلى سبب سياسي هو أنكم تعتمدون على خلافاتنا مع إيران، وهي مستندة في خلافها مع العراق على أطماعها بالحصول على نصف شط العرب، فإذا كان الاختيار أن نحافظ على العراق كلّه ومعه شط العرب ونكون بخير «فلن» نتنازل عن شط العرب، وإذا وُضعنا في زاوية إما نصف شط العرب أو العراق (المقصود الحكم) فإننا سنعطي نصف شط العرب لنحافظ على العراق كما نتمنى».
وأضاف صدام حسين لتبرير موقفه البراغماتي: «بعدها أعطينا نصف شط العرب ومات البارزاني ودفن خارج العراق وخسر معركته»، وعندما سنحت الظروف لإلغاء الاتفاقية حسب اعتقاده قال عنها: إنها ولدت ميتة وما علينا سوى دفنها والبحث عن معاهدة جديدة. وبعد أن استمرت الحرب ثماني سنوات وأكلت الأخضر واليابس، حيث حصدت أرواح مليون إنسان وبددت نحو 400 مليار دولار، كانت الذريعة الجديدة لإحياء «الاتفاقية الميتة» بعد غزو الكويت، حيث تمت الموافقة على المطالب الإيرانية في الرسالة الموجهة إلى هاشمي رفسنجاني والمؤرخة في 15 أكتوبر 1990. يومها وصف ولايتي وزير خارجية إيران الأسبق العرض الذي تقدمت به الحكومة العراقية لتسوية النزاع والعودة إلى اتفاقية الجزائر بأنها أكبر انتصار تحقق لإيران منذ قيام الجمهورية الإسلامية.
إن تصريحات الرئيس جلال الطالباني أعادت إلى الأذهان الذكرى الأليمة للحرب العراقية-الإيرانية وما جلبت من ويلات على البلدين وعلى شعوب المنطقة بأكملها، وبالطبع فإن إيران التي وافقت مرغمة على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 598 القاضي بوقف الحرب، بعد أن تجرّع الإمام الخميني «كأس السمّ» عام 1988، جاءتها الفرصة الذهبية للتشبث باتفاقية الجزائر وإحيائها، بعد مغامرة غزو الكويت واضطرار العراق للموافقة عليها مجدداً.
لماذا كان رد الفعل الإيراني غاضباً لدرجة التنديد بتصريحات الطالباني؟ باختصار الجواب يأتي من حيثيات اتفاقية الجزائر التي تعني التنازل عن جزء من المياه الوطنية العراقية وعن الضفة اليسرى لشط العرب والموافقة على قبول السيادة الإيرانية عليها بموجب ما سمي بخط الثالويك Thalweg. وخط الثالويك حسب القانون الدولي هو خط وهمي يمثل الحد الفاصل في تخطيط الحدود النهرية (للأنهار الدولية وهذا ما لا ينطبق على شط العرب بالطبع) ابتداءاً من أعمق نقطة في وسط مجرى النهر الرئيسي الصالح للملاحة عند أخفض منسوب وحتى البحر.
بهذا المعنى يكون العراق قد تنازل مرة أخرى عن نصف شط العرب أي بحدود 90 كيلومتراً وعن الجرف القاري والبحر الإقليمي العائد له في ما يتعلق بالحدود النهرية، أما في الحدود البرية فقد شمل التنازل 1000 كيلومتر في منطقة نوكان-ناوزنك العراقية في أراضي كردستان، على أمل استعادة 324 كيلومترا في منطقة زين القوس وسيف سعد والمرتفعات الاستراتيجية التي ظلّت إيران متمسكة بها سواء في عهد الشاه أم في عهد الخميني، وهي المناطق القريبة من قصر شيرين.
كان القضاء على الحركة الكردية المسلحة، أحد أهداف الاتفاقية، الأمر الذي بقي راسخاً في ذهن جلال الطالباني حيث فجّر أزمة دبلوماسية لم تكن محسوبة، ولعل الاتفاق الأمني كان من أخطر ما ورد في الاتفاقية، حيث نص على: إعادة الثقة المتبادلة على طول الحدود المشتركة والالتزام بإجراء رقابة مشددة وفعالة ووقف التسللات ذات الطابع التخريبي. وكان ذلك يعني تبادل المعلومات الأمنية عن نشاطات المعارضة العراقية والإيرانية، كما كانت تعني إطلاق يد الشاه في الخليج والسكوت عن احتلال الجزر العربية الثلاث أبو موسى والطنبين.
هل احتدام الخلاف بين حكومة المالكي والائتلاف الكردي وتعثر المفاوضات بخصوص توقيع اتفاقيات النفط في كردستان وحول المادة 140 بشأن كركوك، كان وراء جواب الطالباني وبحضور الهاشمي، أم أنه أراد جسّ النبض قبيل إرسال وفد حكومي عراقي إلى طهران لإحياء اتفاقية الجزائر؟ أم أن سبباً آخر يعود إلى الرغبة الأميركية في الضغط على إيران واتهامها بالوقوف وراء القسم الأكبر من العنف والإرهاب في العراق؟ أم قد يكون تحت ضغط القصف التركي لجبال قنديل العراقية لملاحقة حزب العمال الكردستاني PKK!؟
وأياً كان السبب فإن موضوع شط العرب وحقوق العراق يقتضيان إعادة النظر باتفاقية الجزائر باعتبارها اتفاقية جائرة ومجحفة ومذلّة وغير متكافئة، وأبرمت في ظرف استثنائي وتحت ضغوط وإملاءات دولية، لم تكن خطة كيسنجر بعيدة عنها وهو ما ورد في تقرير بايك المقدم إلى الكونغرس الأميركي، فمتى ستضع الأجندة العراقية ذلك في المفاوضات مع إيران؟!!
* كاتب ومفكر عربي