منذ أعلنت الجماعة الإسلامية المصرية رغبتها الصادقة في محاورة السلطة، وهناك سؤال يشغل أذهان المهتمين بدراسة الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي بقدر ما يؤرق المسؤولين ورجال الأمن، ألا وهو: هل التسليم بالحوار والتفاهم توطئة للمراجعات الفكرية؟ وهل التبدل السياسي في مسيرة هذه التنظيمات هو من قبيل التكتيك أم هو خيار استراتيجي؟ ولم يقدم أحد إجابة جامعة مانعة عن هذا التساؤل المحوري، إذ إن الأدلة على تبنَّي أي من هذين الخيارين لا تزال ناقصة، وليس بوسع أحد أن يقف عليها كاملة، لأن بعضها أسرار تطويها صدور المتراجعين والمتحولين من التطرف إلى الاعتدال، ومن حمل السلاح إلى رفع الرايات البيضاء، وبعضها لا يحيطنا علما بموقف الأفراد العاديين في هذه الجماعات من قضية المراجعة التي تبنَّاها الأمراء أو القادة التاريخيون. لكن لو حكمنا على المراجعات في حيز ضيق ينصب على هؤلاء القادة فإن النتيجة التي تقفز إلى الذهن للوهلة الأولى هي أنها خيار استراتيجي لا رجعة عنه. فهؤلاء جربوا التمرد على السلطة، وحمل السلاح، فلم يجنوا من تصرفهم هذا سوى البقاء في غياهب السجن إلى ما يقرب من ربع قرن، وثبت لديهم أن أحلام الاستيلاء على الحكم مجرد أوهام، وأن الاعتقاد في هشاشة السلطة وضعفها وتآكلها محض خيالات لا أساس لها، ومن ثم فليس أمامهم من خيار سوى الإقرار بالأمر الواقع، والتعامل مع السلطة بإيجابية، تضمن لهم الخروج من السجون، وممارسة حياتهم الطبيعية بعد أن اشتعلت رؤوسهم شيبا.

Ad

ومثل هؤلاء لن يكون بمقدورهم العودة إلى الدخول في غمار طريق الاحتجاج، أياً كانت درجته، ومسلك الخروج أياً كانت مسافته. فالإفراج عنهم كان مشروطا بعدم عودتهم إلى «الجماعة الإسلامية» التي باتت كيانا مشلولا، وبإعادة تأهيلهم للتكيّف مع حياتهم الجديدة، وتوظيفهم في إقناع من لم يتراجع من أفراد الجماعة وقيادات الجماعات والتنظيمات الأخرى بالعودة عن المسلك الذي تسير فيه. وعلاوة على ذلك فهؤلاء قد وُضعوا تحت الرقابة الأمنية الصارمة، التي لا فكاك منها، ولا يمكن معها لأي منهم أن يعاود نشاطه السياسي القديم، إنْ فكّر في هذا يوما من الأيام. ولكل هذه العوامل والأسباب صارت مراجعة هذه القيادات مراجعة استراتيجية بحكم الضرورة تارة، وبفعل الاقتناع طورا.

في الوقت ذاته ليس هناك ما يمنع من وجود قيادات صغيرة بديلة يمكن أن تقفز إلى السطح في لحظة تتخيرها بدقة، لا تروق لها المراجعات، وترى في ما أقدم عليه القادة التاريخيون تكتيكا يمكن أن يفيد الجماعة، لتدخل «استراحة محارب» تستعيد فيها زمام أمورها، وتجمع أشلاءها، وتنفخ في أوصالها المتقطعة، فتلتحم من جديد. وربما يرى هؤلاء القادة الجدد أن المراجعات أتاحت للجماعة الإسلامية هدنة طويلة بعد أن كانت مشرفة على هزيمة محققة من النظام الحاكم عقب صراع دام نشب عام 1988 ولم يتوقف سوى عقب حادث الأقصر 1997 الذي قتل فيه نحو ستين سائحا أجنبيا.

أما بالنسبة لتنظيم الجهاد الإسلامي الذي ينتمي إليه أصلا سيد إمام عبدالعزيز المعروف باسم الدكتور فضل، والذي يعد المنظر والفقيه الأول في تنظيم القاعدة، فقد تشتت بفعل الحملة الأميركية على «الإرهاب الدولي» التي انطلقت عقب حدث الحادي عشر من سبتمبر. وقد كان الجسم الرئيسي له قد انهضم في «القاعدة»، وبالتالي فإن مراجعة فضل تخص الخارج أكثر مما تعني الداخل المصري، وبالتالي فإنها تكون استراتيجية بالنسبة إليه، لأنه لن يكون بوسعه أن يعود إلى جماعته السابقة وتنظيمه بعد اليوم، لكنها ليست تكتيكية ولا استراتيجية بالنسبة إلى «القاعدة»، التي تحاول التعمية على مراجعة فقيهها الأول، والتغطية على آرائه وفتاواه الجديدة، ويمكنها أن تشكك فيها، وتعزوها إلى تعرضه للتعذيب، أو غسل مخه في السجن، وتقلل من جدواها وتأثيرها، وتستمر في الوقت ذاته في اعتماد كتاب فضل المؤسس وهو «العمدة في إعداد العدة».

لكن ما يجب التأكيد عليه في خاتمة المطاف أن هذه المراجعات لا تنهي الأسباب التي تؤدي إلى التطرف والغلو والعنف، وهي أسباب مركّبة تمتد في السياسات الداخلية من أزمة القيم الاجتماعية والأخلاقية إلى الصدمة الحضارية، مرورا بالفقر والبطالة والاستبداد السياسي وتخلف مناهج التعليم. أما في السياسات الدولية فهذه الأسباب بنت الصراع المرير الذي انفجر بعد 11 سبتمبر، وبنت التحيز الأميركي الواضح لإسرائيل، واحتلال العراق وأفغانستان.

* كاتب وباحث مصري