الكاميرا المقاتلة

نشر في 18-12-2007
آخر تحديث 18-12-2007 | 00:00
 د. عمار علي حسن

في حرب القرم بين روسيا وبريطانيا، التي اندلعت عام 1848 واستمرت حتى 1870، دخلت الكاميرا لأول مرة إلى ميدان القتال، بعد أن سمح لها العسكريون بتسجيل المعارك، ومنذ ذلك التاريخ صارت «آلة التصوير» جزءاً لا يتجزأ من الحروب أينما وقعت، وصارت الصورة جزءاً أصيلاً من الحرب الحديثة.

لاتزال ذاكرة العالم محتشدة باللقطات المتتابعة لطائرة «الشبح» الأميركية، وهي تحلق طليقة في سماء العراق، من دون أي اعتناء بالصواريخ المطاردة، أو بالأهداف المتحركة المراوغة، تلك الطلاقة، وذلك التحليق، الذي لم يهدأ طيلة أيام الحرب، كان يغطي تماماً على ما يجري في أرض الواقع، في محاولة لحسم المعركة مبكراً عبر «الصورة»، التي جرفت أمامها، في الوقت نفسه، سيل الكلمات المسموعة والمقروءة التي تصف الحرب، وتسهب جاهدة في تبيان تفاصيل، لم يقطع أحد، إلى الآن، بدقتها.

ومع هذا الغموض المخطط له، بفعل نقص المعلومات الواردة من ميدان القتال، أتيح لواشنطن أن توظف الصورة بعناية فائقة في كسب حرب الخليج الثانية التي اندلعت في يناير 1991، إلى درجة حدت بالبعض إلى القول إن «سي. إن. إن»، التي ولدت على أكف هذه الحرب، هي المنتصر الأول، بل وصل الأمر بالأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي إلى وصف هذه المحطة التلفزيونية الإخبارية الشهيرة بأنها العضو السادس الذي امتلك حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي.

ورحلة الوصول إلى توظيف الصور المتحركة في الحرب تمثل ذروة لتجربة طويلة في العلاقة بين الرسم والدم، بدأت بتلك الرسومات المحفورة على جدران المعابد في مصر القديمة، للملوك وهم ذاهبون إلى ساحات القتال، تتقدمهم حِرابٌ مشرعة، وتتبعهم صفوف من الجند المدججين بالسلاح، ثم بدأت مرحلة الرسم بالكلمات، حين توصل البشر إلى حروف اللغة، فحفلت الملاحم اليونانية والقصائد الشعرية العربية بتصوير مكتوب للمعارك، وعبر هذا الإبداع الفني عرفنا حرب البلبونيز في اليونان القديمة، وكيف انتصر عسكر أسبرطة على جند أثينا، وصار لدينا خبر بحرب البسوس الطويلة بين قبائل عربية في العصر الجاهلي. وعلى المنوال نفسه صور الناس في بقاع الأرض قديماً الحروب التي خاضوها، إما عدواناً على الغير أو دفاعاً عن النفس والأرض والعرض، من خلال الكتابات النثرية والنظم الشعري، التي لم تتجاوز حد الوصف أو الرسم بالكلمات، أي أنها في خاتمة المطاف، كانت تصويراً مكتوباً، يمجد الأنصار، ويحط من شأن الأعداء.

وخلال الحرب الأهلية الأميركية كان الحفارون على الخشب والنحاس يرافقون المستوطنين من الهنود الحمر، في اتجاههم صوب الغرب، هرباً من الإبادة، لينحتوا ما يرونه من معارك شرسة، وفي عام 1770 نحتوا صوراً للمذبحة التي جرت في بوسطن. وفي القرن التاسع عشر، كان الرسامون يذهبون إلى ميادين القتال، باستخدام الدراجات الهوائية، ليقفوا على مشاهد واقعية، يعودون ويجسدونها على مهل في لوحات تشهد على سير المعارك، وتؤرخ لها، على الأقل من الناحية الفنية. وكان بعضهم يرسل ما التقطه من صور معلقاً في مناطيد تسبح في الهواء، أو بشر يسبحون في المياه الطليقة.

وفي حرب القرم بين روسيا وبريطانيا، التي اندلعت عام 1848 واستمرت حتى 1870، دخلت الكاميرا لأول مرة إلى ميدان القتال، بعد أن سمح لها العسكريون بتسجيل المعارك، ومنذ ذلك التاريخ صارت «آلة التصوير» جزءاً لا يتجزأ من الحروب أينما وقعت، وللوهلة الأولى أظهرت لحظة الميلاد هذه أن المصورين الحربيين، فريقان، الأول يضم «سياح الحرب» الذين يتفرجون عليها من بعيد، ويسجلون بكاميراتهم ما راق لهم، أو ما أوعز إليهم، من مشاهد. أما الثاني فيضم أولئك الذين يقفون «ضد الحرب» لأنهم، من هول ما يرونه من فظائع، يرفضون قتل الإنسان لأخيه الإنسان، أياً كانت الأسباب أو المبررات.

واستمر التصوير بالحرب سنوات، حتى أنه رافق اختراع الكاميرا في مراحلها الأولى، فعلى سبيل المثال لا الحصر، مارست قوات الحلفاء حرباً نفسية على قوات المحور في الحرب العالمية الثانية، بإلقاء قوائم بالأطعمة التي يأكلها الجنود الأميركيون والبريطانيون والفرنسيون ومن يقاتل في صفوفهم، على رؤوس الجند الألمان، خاصة في البقاع المحاصرة والجيوب المعزولة، أو التي كانت تعاني نقصاً في الإمدادات الغذائية، وشملت هذه القوائم أسماء الأطعمة وصوراً لها، مما كان له وقع سلبي في نفوس الألمان.

وأرادت إذاعة «بي. بي. سي» أن تنقل إلينا، عبر الصوت المجسم، صوراً حية، من ميادين القتال، فاعتادت استضافة مراسليها المرافقين للصفوف الأمامية من فرقاء الحروب، ومسؤولين من الطرفين المتقاتلين، ومحللين متابعين للحرب عن كثب، وأحياناً فقرات مسموعة من المعركة، فكادت بذلك أن تحول الكلمات التي تصيخ لها الآذان سمعاً إلى صور تقتحم العيون، وأن تجعل السمع حاسة كافية للوقوف على ما يجري.

في الوقت الراهن توجد أربعة أنواع من التصوير أثناء الحرب هي: التصوير التلفزيوني أو السينمائي العادي؛ والتصوير الترويجي (Promotion) أو الفلاش التلفزيوني- وهو مجموعة من لقطات سريعة تظهر في 30 ثانية لتعرض بعض المشاهد بطريقة فنية معينة- والتصوير الفوتوغرافي العادي، والصور المركبة، مثل تلك الصور التي استعملتها المخابرات الأميركية «سي. آي. إيه» لمحاولة البرهنة على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل.

في كل الأحوال صارت الصورة جزءاً أصيلاً من الحرب الحديثة، وهو ما يعبر عنه أحد مصوري «حزب الله» بقوله: «ربما تقتل جندياً ما، بينما الصورة التي تنقلها الكاميرا التلفزيونية تقتل آلافاً بل الملايين من الإسرائيليين، وتهزمهم نفسياً في المستوطنات والثكنات العسكرية... المقاتل هو الذي يحمل البندقية ويطلق الرصاص على الجندي الإسرائيلي، أما نحن -حاملي الكاميرا- نطلق الرصاص على كل المجتمع الإسرائيلي».

* كاتب وباحث مصري

back to top