Ad

نقول إن لبنان هو اليوم «ميزان حرارة» هذا التغيير. فقد بات واضحاً أن معركة رئاسة الجمهورية ليست بين هذا الزعيم اللبناني أو ذاك. إنها بين مشروعين، ترعى أحدهما -بقوة- الولايات المتحدة، حتى تحافظ على أن يظل لبنان خط الدفاع الثاني في خارطتها العسكرية والسياسية، بينما ترعى إيران وحلفاؤها -بقوة أيضاً- المشروع المضاد الثاني كي يكون البلد منطلقاً سياسياً، وربما عسكرياً، لطرد النفوذ الأميركي من المنطقة.

إذا أردنا أن نعرف ما إذا كان الرئيس بوش سيُدخل تعديلات تكتيكية أو استراتيجية على خطته في العراق، بعد أن استمع الكونغرس إلى تقريري سفيره وقائد قواته في العراق... فعلينا أن نراقب عن كثب، وبكل دقة، ما يجري في انتخابات رئاسة الجمهورية في لبنان.

قد يبدو هذا الكلام غريباً لبعضهم، لكنه ليس كذلك بالنسبة إلى الذين يتابعون «لعبة الشطرنج» الخطيرة في بلاد الأرز الدائم الاخضرار. فالمؤشرات تثبت أن لبنان بات، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، خط الدفاع الثاني بعد العراق وجواره الدول الخليجية. فنتائج الحرب في العراق، وقناعة صانعي القرار الاميركي، مدنيين وعسكريين، معارضين ومؤيدين، ديموقراطيين وجمهوريين، بأن واشنطن خسرت هذه الحرب، لأنها لم تستطع أن تحسمها لمصلحتها، وفي رأي بعضهم انها لن تستطيع مهما طال بقاء قوات الاحتلال في الأرض العراقية. لذلك فإن واشنطن تسعى إلى تحديد خسارتها العسكرية مع التمسك، وبعناد لا مثيل له، بوجودها السياسي النافذ في بلاد الرافدين.

وبعد هذا بات تعريف الانتصار الذي لن تقبل واشنطن بأقل منه، حتى لو وصلت -أو أوصلت العالم- إلى حافة حرب عالمية ثالثة. يستدل على ذلك من شهادتي السفير كروكر والجنرال بيتريوس أمام لجنتي الشؤون الخارجية والدفاع في واشنطن خلال الأسبوع الماضي.

الملفت للنظر أن الدبلوماسي والعسكري اتفقا معاً على قول نقطة مشتركة، وهي أنهما لا يستطيعان النظر إلى أبعد من صيف العام المقبل؛ ذلك لأن المنطقة غير مضمونة الأحداث، وهي تعيش في ظل ضباب أكثر كثافة من ضباب العاصمة البريطانية في موسم الضباب. كذلك راهن كلاهما على تطويع السُّنة في العراق من خلال النجاح الجزئي الهامشي في استمالة عدد من عشائر ووجهاء الأنبار، ناسين، أو متناسين -لا فرق- تاريخ تلك العشائر القديم والحديث الزاخر بما يمكن تسميته «الأخذ بالثأر»، مهما طال الزمن أو استطال.

دائرة العشائر

خلال 35 سنة من حكم «البعث» العراق، لم يتمكن صدام من تطويع أو استمالة العشائر كلها، كما أنه لم يستطع درء خطرها بالرغم من أنواع الإغراءات جميعها، السلبية منها والإيجابية التي كان يقدمها إلى شيوخهم ووجهائهم في كل المناسبات، بدءاً بالهبات المالية بمناسبة وغير مناسبة، وانتهاءً بسيارات «المرسيدس». وقد اضطر صدام إلى «اختراع» حل وسط، فأنشأ في ديوان رئاسة الجمهورية التابع له مباشرة، دائرة خاصة بالعشائر، تتعامل معهم خارج إطار القانون العام الذي كان يحكم العراق في ذلك الوقت.

هناك قصة واقعية لا يعرفها كثيرون حدثت في بداية الثمانينيات، وفي المرحلة الأولى من الحرب العراقية-الإيرانية، إذ اختلفت عشيرة من عشائر الأنبار (نسيت اسمها) مع عشيرة التكارتة، وأدى هذا الخلاف إلى قتل ابن العشيرة الأنباري على يد ابن عشيرة من تكريت ينتمي مباشرة إلى صدام حسين. في البداية، لم تفلح الوساطات، ولا استعراض عضلات القوة في ردع العشيرة الأنبارية عن المطالبة بالثأر. وقد التفّ حول عشيرة المعتدى عليه عشائر أنبارية أخرى لأسباب عديدة، لعل أهمها المنطق العشائري القائل إن أي تهاون في تطبيق «التقاليد» سيعطي «العشيرة المالكة» الضوء الأخضر، في استباحة دماء أبناء العشائر غير الحاكمة بسبب أو من دون سبب.

صدام امتنع عن التدخل شخصياً لحل هذه المسألة، وكلّف خاله ووالد زوجته خيرالله طلفاح بالمهمة. عقد الخال لقاء مع شيوخ العشيرة الأنبارية وقال لهم، تقريباً، بالحرف الواحد: إذا أردتم الاخذ بالثأر فسوف تنتظرون طويلاً لأننا باقون في الحكم إلى أمد غير منظور، ولو خرجنا من الحكم غداً فإنكم لن تحققوا رغبتكم؛ لأنه لو حصل ذلك، فهناك عشائر كثيرة وغيرها، تنتظر هذا اليوم للأخذ بثأرها منا. وعندما يحين دوركم لن تتمكنوا من الحصول على «قطعة لحم» صغيرة من أجسامنا، لأن غيركم سيكون قد سبقكم؛ لذلك فالأفضل أن نعلن المصالحة ونقرر «الفدية» التي ترونها مناسبة، وإلا فعليكم الانتظار أمد الدهر.

اقتنعت العشيرة الأنبارية بمنطق خيرالله طلفاح، وأخذت الفدية، لكنها لم تنس تقاليدها الموروثة التي تقضي بأن الدم يستسقي الدم؛ فإذا كان ذلك قد حدث بين عشيرتين عراقيتين يضمهما وطن واحد، وربما وشائج القربى والدم أيضاً، فما بالك بالغريب الذي حوّل دماء أبناء العراق إلى نهر من الدم؟!

أسوق هذه الواقعة الحقيقية وأقدمها نصيحة مجانية إلى الجنرال بيتريوس الذي كما يبدو من تصرفاته مع العراقيين، قد قرأ تجربة «ت. لورانس» المعروف عندنا بـ «لورانس العرب»، وقرر السير على خطاه. لكن لورانس بعث من قِبل المخابرات البريطانية، في الحرب العالمية الاولى، إلى الجزيرة العربية لحض العرب على الثورة والخلاص من الاحتلال العثماني، بينما «بيتريوس العراق» هو نفسه المحتل.

البطريرك و«إده»

نعود إلى بداية المقال، وإلى العلاقة التي تربط لبنان بالتغيير الاستراتيجي أو التكتيكي الأميركي في العراق وفي المنطقة برمتها، لنقول إن لبنان هو اليوم «ميزان حرارة» هذا التغيير. فقد بات واضحاً أن معركة رئاسة الجمهورية ليست بين هذا الزعيم اللبناني أو ذاك. إنها بين مشروعين، ترعى أحدهما -وبقوة- الولايات المتحدة حتى تحافظ على أن يظل لبنان خط الدفاع الثاني في خارطتها العسكرية والسياسية، بينما ترعى إيران وحلفاؤها -بقوة أيضاً- المشروع المضاد الثاني كي يكون البلد منطلقاً سياسياً، وربما عسكرياً، لطرد النفوذ الأميركي من المنطقة، أو على الأقل تحجيمه؛ فإذا قبلت واشنطن وسهّـلت انتخاب «رئيس توافقي» للبنان تكون بذلك قد انحنت للعاصفة القادمة من طهران عبر دمشق. وهذا في رأي معظم المراقبين احتمال بعيد الحدوث في ظل المعطيات السياسية الحالية. إن واشنطن إذا تخلت عن خط دفاعها الثاني (لبنان) فلن يبقى لها سوى مياه البحر الأبيض المتوسط، أما إذا سارت في مخططها المرسوم بدقة للاتيان برئيس ينتمي، قلباً وقالباً، إلى «الأكثرية» البرلمانية، فإنها بذلك تحصّن مواقعها. والمعركة لا تزال في بدايتها، والتحركات الأميركية في لبنان ستكشف خطوط استراتيجيتها المقبلة في المنطقة. ولا يفصلنا عن ذلك سوى 60 يوماً على الأكثر، وربما أقل حتى تزول الحال الضبابية التي تلف الموقف الأميركي الجديد. هذا إذا كان هناك من جديد.

الملفت للنظر أن فرنسا ما تزال مصرة على اللعب بورقتها الخاصة في انتخابات الرئاسة اللبنانية، وهي تستغل شعار انتخاب رئيس توافقي لتقدم مرشحها الذي يقف في منتصف الطريق بين الموالاة والمعارضة، معتمدةً على البطريرك الماروني، وربما على الفاتيكان، في الترويج لمرشحها. وفي إحدى الجلسات الخاصة، أسرّ البطريرك باسم هذا المرشح في أذن أحد أقطاب المعارضة، وهذا المرشح هو الوزير السابق ميشال إده الذي ترضى عنه دمشق، ومن المؤمل ألا ترفضه واشنطن، والوزير إده معروف بمواقفه الإيجابية تجاه دمشق، فهو الذي قال، في وقت غير بعيد، إنه «مستعد لوضع جسده أمام الدبابة السورية، لمنعها الانسحاب من لبنان». حدث ذلك قبل اغتيال رفيق الحريري. بالإضافة إلى أنه ينتمي إلى الفرانكوفونية أكثر من ميله الى المخططات الأميركية لبنانياً وعربياً. لكن هناك «علة» وحيدة وهي انه كبير السنّ، وقد تجاوز الثمانين من العمر. وعندما قيل ذلك للبطريرك الماروني ردّ قائلا: «شو عليه. فأنا وهو في نفس العمر».

* كاتب لبناني