الممارسة المدنية تتطلب تحييد أجهزة الأمن والتعريف بدورها الحقيقي مسؤولية الانتخابات النيابية تقع في الأغلب تحت إشراف المؤسسات الحاكمة ممثلة بأجهزة الرئاسة وتحديداً الأمنية منها،
مع إعطاء دور إشرافي لأجهزة العدل أثناء عملية الاقتراع، ولاحقاً لتلقي شكاوى الطعن في سير العملية الانتخابية، ويستثنى من هذا النمط الإداري العراق الذي شكل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، ويحسب لليمن وبشكل نسبي اعتماد هذا النظام عبر هيئة للانتخابات مع تدخل من السلطة في اختيار وتشكيل هذه الهيئة.
العملية الانتخابية عبارة عن جهد مدني خالص ويتطلب بالنتيجة إدارة مدنية، والعذر الذي تسوقه بعض الأنظمة في المنطقة العربية من أن وزارة العدل تساهم في هذا الإشراف من خلال تلقي الطعون الخاصة بالقوائم والنتائج الانتخابية يبدو حجة ضعيفة، مع تطور وتضافر الجهود الدولية التي تقودها الأمم المتحدة لدعم تقنيات الانتخابات وتنمية نظمها. وتبدو صيغة المفوضية أو الهيئة العليا للانتخابات، كأحد المخارج التي تضمن شفافية العملية الانتخابية في جميع مراحلها، وبنسب نجاح عالية وان لم تكن كاملة. وتشكل نظاما مؤسسيا قانونيا مدنيا متكاملا يعالج هذه القضية بدءا من إجراءات تسجيل الناخبين وطريقة التصويت وتحديد أماكنه، ويعرج إلى المرشحين وشروط خوضهم للانتخابات وضوابط الصرف المالي على الحملات الانتخابية، والتعامل مع وسائل الإعلام، وغيرها الكثير من التفاصيل التي تجتمع لتشكل ما يسمى «نظام الانتخابات»، وليس قانون الانتخاب، كما هو معمول به في الكويت على سبيل المثال، والذي يركز على إجراءات محدودة تنفرد بها وزارة الداخلية وبشكل أقل وزارة العدل. فما فكرة «النظام الانتخابي» الذي تترجمه صيغة الهيئة العليا للانتخابات؟ أنواع «النظام الانتخابي» تعني النمط المستخدم، وهي تندرج تحت مسميات ثلاثة هي: نظام الأغلبية والتمثيلان النسبي والمختلط. وليس هذا هو موضوعنا، فما نود الإشارة إليه هو التقنيات والضوابط القانونية والإجراءات المطلوبة لتسيير العملية الانتخابية، ويتضمن تحقيق أهداف المساءلة الشرعية، والتمثيل النيابي، واستدامته وتطويره معا. ويتضمن أي «نظام انتخابي» مدونات أو قواعد سلوك وأنظمة واضحة. أما مدونات السلوك فهي تغطي مراقبي الانتخابات، ووكلاء الجهات المرشحة أو ما يسمى الأحزاب. وهي في العادة تشمل منظومة قانونية تتحدث عن سجل الناخبين، ومراقبي الانتخابات والاستفتاءات، ووكلاء الأحزاب وتقديم الطعون، والحكم في النزاعات والشكاوى والاقتراع وفرز الأصوات وأصول الحملات الانتخابية والتعامل مع وسائل الإعلام، والمخالفات المتعلقة بالاستفتاء والانتخابات. ولكل عملية انتخابية «مهام» تلزم بإدارتها، كما أن هناك «مبادئ» رئيسية لتلك الإدارة. وأولى مهام إدارة الانتخابات وضع وتحديث سجل الانتخابات، وتوعية الجماهير بمختلف شرائحهم سواء كانوا رجالا أم نساء، شبابا أم كبارا، ولا نغفل هنا شريحتي الأميين والأقليات. ويضاف إلى ذلك بالطبع تقديم الخدمات المعلوماتية للمرشحين والأحزاب والتأكد من قدرة كل فرد في المجتمع الانتخابي على ممارسة حقه في الترشح والانتخاب معا. كما أن الهيئة المشرفة على إدارة العملية الانتخابية منوط بها وبشكل مباشر تطبيق القانون الانتخابي بجميع مراحله. الجهود المعلوماتية وتعتبر الجهود البحثية والمعلوماتية التي يتمخض عنها إجراء الانتخابات ضرورية من أجل تنمية وتطوير هذا العمل السياسي المهم في حياة الأفراد في الدولة المدنية. وتحرص أي هيئة مدنية مستقلة تشرف على الانتخابات على عدة «مبادئ» هي: الاستقلالية، الحيادية، والمهنية. بينما تختص تلك الهيئة بتوصيف المهام المطلوبة للانتخابات على شكل قوانين وأنظمة واضحة تتعلق على سبيل المثال بتقسيم الدوائر الانتخابية ووضع القوائم الانتخابية وإيضاح عملية التصويت للمرشحين وفرز الأصوات، وتقدير الكلفة المالية للحملات الانتخابية وضمان السرية وحفظ الأمن والتعامل مع وسائل الإعلام المختلفة وغير ذلك. ويمكن الاستفاضة في شرح أحد أهم نظم الانتخابات، وذلك ضمن الإطار العام لمفهوم المفوضية أو الهيئة العليا الذي سبق أن أشرنا إليها، وذلك من خلال عرض أسس ومحددات التغطية الإعلامية قبل وأثناء فترة الانتخابات، وذلك من واقع التجربة العملية للهيئة الوطنية العراقية للاتصالات والإعلام. وهي جزء لا يتجزأ من منظومة المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق. وأولى ضوابط التغطية الإعلامية هي العدالة، وتعني إيصال المعلومة من دون حذف أو تشويه للمتلقي عبر وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقرؤة. كما تعني ضمان النشر المتوازن وغير المنحاز لأي حزب أو كيان سياسي أو مرشح دون آخر، إضافة إلى عدم انحياز البث الإعلامي الرسمي لأي طرف دون آخر. أما ثاني تلك الضوابط فهو المتعلق بالإعلانات السياسية المدفوعة الأجر، والتي تتطلب نشرها بالتساوي بين الفرقاء السياسيين وبأسعار تساوي أدنى سعر تدفعه الإعلانات التجارية أو لأقل منها، وأن يتم توضيح أن هذه الإعلانات سياسية، مع تحديد الجهة الراعية لها. ثالث الضوابط هو تثقيف الناخبين، من خلال نشر أفكار وبرامج المرشحين، وطرح المواضيع السياسية التي يتداولها المرشحون بالشرح والتحليل وإعلام الناخب بعملية الإدلاء بالأصوات وإتاحة وسائل الإعلام الرسمية وقتا مجانيا للمرشحين لاستعراض أفكارهم وبرامجهم السياسية من خلال الدعاية والبرامج الحوارية، وأن تكون وسائل الإعلام الرسمية في خدمة المفوضية العليا للانتخابات بحكم أنها الممول الرئيسي للخدمات الانتخابية للمواطنين. أما الضابط الرابع فهو التعامل مع نتائج استطلاعات الرأي التي تقوم بها جهات ومؤسسات إعلامية، حيث يتطلب التعامل مع تلك النتائج تحديد الجهة التي أجرت الاستطلاع، والطريقة التي اتبعت لإجرائه وحجم العينة وهامش الخطأ وتواريخ إجراء الاستطلاعات. وخامس الضوابط هو فترة الصمت الإعلامي، بحيث يمنع أي مرشح أو حزب من عمل دعاية أو بث أي أخبار أو معلومات قبل 48 ساعة من بدء وقت الاقتراع، بحيث تنتهي هذه الفترة مع إغلاق آخر مركز اقتراع، مع عدم منع وسائل الإعلام من نشر معلومات تثقيفية ودعائية لحث الناخبين على المشاركة أو نشر معلومات حول إجراءات الانتخابات. ضوابط وسائل الإعلام يضاف إلى ذلك تحديد ضوابط لوسائل الإعلام حول مسائل التحريض على العنف والاضطرابات العامة وإتاحة الفرصة لأي مرشح طرف في الانتخابات وضمان حقه في الرد على أي معلومات غير دقيقة تنشر عنه بشرط اقتناع الجهة المسؤولة عن استقبال هذا الرد وبجدوى نشره. إضافة إلى وضع قواعد تعالج خرق كل ما سبق من نظم وإجراءات وتحدد فيها نوع وطبيعة العقوبة بالتفصيل سواء كانت أدبية أو مالية. وغني عن القول أن الأجواء السياسية المستقرة التي توفرها المؤسسات الدستورية ومبدأ سيادة القانون وتواؤم الطموحات والأهداف السياسة للفرقاء والمتنافسين على السلطة مع المصالح الوطنية تشكل طوق نجاه لاختبار أي أنظمة أو تقنيات جديدة في مجال التنمية السياسية وليس العكس.