الخروج من الأزمة...وجهة نظر
خلال السنوات الثلاثين الماضية، لم تتبنَّ الدولة أي مشروع تنموي استراتيجي حقيقي ذي أهداف متوسطة وطويلة المدى. ولم يستكمل، بل عُطل وبشكل متعمد، البناء الديموقراطي للدولة الكويتية الحديثة. قد لا يبدو الأمر هيناً، لكن لحسن الحظ، فإنه تتوافر لدينا مقومات فريدة قد لا توجد في دول كثيرة.
الكثير من المواطنين يتذمرون من الوضع العام في البلد، للدرجة التي توحي بأنه «مَحَدْ راضي». فالمسؤول الحكومي الكبير والموظف البسيط، ورجل الشارع والمثقف، والطالب والعامل، الكبير والصغير، رجالاً ونساءً، كلهم «يتحلطمون»، حتى أصبح الانطباع العام عند الغالبية من المواطنين أن البلد ماشي على البركة، وأن الأوضاع العامة لا تسر، فمن أزمة إلى أزمة... وكأننا ندور في حلقة مفرغة. والسؤال المهم هنا هو: لماذا كثُر تذمر المواطنين؟ وما العمل؟الجواب على الشق الأول من السؤال يتلخص في أنه خلال السنوات الثلاثين الماضية لم تتبنَّ الدولة أي مشروع تنموي استراتيجي حقيقي ذي أهداف متوسطة وطويلة المدى. ولم يستكمل، بل عُطل وبشكل متعمد، البناء الديموقراطي للدولة الكويتية الحديثة. فلقد غابت النظرة التنموية الاستراتيجية وتم التحالف مع قوى سياسية مناهضة للنظام الديموقراطي للمشاركة الفعلية في إدارة وتوجيه الدولة. ولم تقدم هذه القوى السياسية، أي مشروع تنموي، بل باركت الانقلاب على النظام الديموقراطي وساهمت في محاولة استمراره وطرحت مشروع شعارات فضفاضة بشرت فيها بما أسمته «الصحوة المباركة»، ونشرت «ثقافة» «كرامات» الإخوان الأفغان وبشرت بمشروعهم لبناء الدولة الدينية. والآن، نحن نجني نتائج فشل هذا المشروع غير الديموقراطي لهذه القوى السياسية الذي بدأت بتنفيذه منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي. لقد فشل هذا المشروع على الرغم من تسخير موارد الدولة لهم وهيمنتهم على التعليم والإعلام المرئي والمسموع وتمكينهم من المراكز القيادية في أجهزة الدولة وسيطرتهم على اتحادات الطلبة، وتقريباً مؤسسات المجتمع المدني المؤثرة ومؤسسات الدولة الاقتصادية كلها. ولقد تجلت مظاهر فشل هذا المشروع في إدارة الدولة في ما نراه الآن من غياب للرؤية التنموية الاستراتيجية، والأزمات السياسية المتكررة، وازدياد الولاءات التقليدية المهددة لكيان الدولة (كالقبلية والطائفية والفئوية) وضعف سيادة القانون، وكثرة سرقات المال العام، والفساد السياسي والإداري، وانتشار حالات الإحباط واليأس بين الشباب، والقيود المفروضة على الفكر النيّر والإبداع الحر، وانتشار المخدرات وارتفاع نسبة الجريمة، وسوء الإدارة الحكومية ورداءة الخدمات العامة التي تقدمها كالتعليم والصحة. لذلك كثُر تذمر المواطنين من الوضع العام وضعفت ثقتهم بالسياسات الحكومية. والآن، نأتي للشق الثاني من السؤال... وهو ما العمل؟قد لا يبدو الأمر هيناً، لكن لحسن الحظ، فإنه تتوافر لدينا مقومات فريدة قد لا توجد في دول كثيرة، منها الاستقرار السياسي المستند إلى دستور 1962، والموقع الجغرافي المميز، وارتفاع نسبة التعليم، والثروة المالية الهائلة والشعب الوفي. بالإضافة إلى صغر حجم البلد وقلة عدد السكان. والمفروض الاستفادة من هذه الظروف الموضوعية للبدء في تبني رؤية تنموية استراتيجية واضحة ومحددة الأهداف والوسائل ومرتكزة على المشروع الوطني الديموقراطي الذي يستهدف بناء الدولة العصرية على أسس دستورية ديموقراطية. هذا المشروع الذي يضمن تعزيز الوحدة الوطنية البعيدة عن القبلية والطائفية والفئوية، ويهدف إلى بناء دولة عصرية ترتكز على مبادئ المواطنة الدستورية والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون وتكافؤ الفرص. مشروع يستنهض الهمم ويستثمر الطاقات المبدعة للشباب الوطني ويركز على كل ما هو ايجابي في المجتمع. مشروع يرفع راية التنوير والنهضة والتقدم، ويتم التوافق عليه من قبل القوى السياسية المؤمنة حقاً بنصوص ومضمون الدستور وبنظام الحكم الديموقراطي الذي تكون السيادة فيه للأمة مصدر السلطات جميعاً. هذا المشروع هو الذي جعل الكويت، قبل إجهاضه، تسمى درة الخليج.هل هذا ممكن الآن؟... الجواب هو نعم، بشرط توافر إدارة سياسية تعترف بالمشكلة وتحدد أسبابها وتمتلك لحلها رؤية تنموية استراتيجية ذات أفق وطني ديموقراطي تتبناها كفلسفة عامة ونهج متكامل وتترجمها إلى واقع حياتي ملموس من خلال سياسات وبرامج عامة تعليمية وصحية وغيرها. وغير ذلك، فإننا سنظل ندور في حلقة مفرغة، فما نكاد نخرج من أزمة سياسية حتى ندخل في أخرى ونعود إلى المربع رقم واحد. والمشكلة هنا... أنه ليس هنالك الكثير من الوقت لإضاعته في قضايا هامشية، فالعالم لن يتوقف لانتظارنا، وما هو ممكن اليوم قد يصعب تحقيقه في الغد.