يقول المثل الشعبي الذي يردده المصريون كثيراً في الفترة الأخيرة ويترحّمون على أيام السادات وعبدالناصر والملك فاروق: «لن تعرف قيمة والدك إلا إذا جاء عمُك أو زوج أمُك»، فقد كانوا يعملون ويعيشون ويتزوجون ويحلمون أيضاً, ومن الطبيعي أن يقارن الناس بين عصر وآخر، وأن يغضبوا إذا اكتشفوا أن فرصهم في الحياة الإنسانية قد تبخّرت، وأنهم يدورون حول أنفسهم ويسيرون في شوارع مسدودة، وأن الذين يجلسون في الأعالي لا يرون سوى أنفسهم وظلالهم، ويتمثلون بقول محمود درويش «أرى ما أريد»، وينسون أن المبدع فقط بوسعه أن يختار فقط ما يراه أحياناً، لكن السياسي لا يملك هذا الحق سواء كان في السُلطة أو خارجها لأن عمله يُحتّم عليه أن يرى الصورة كاملة، وأن يخطط ويرسم ويراجع ويفكر في العواقب، لكن الجالسين في الأعالي ليسوا سياسيين حقيقيين، فأغلبهم من المحاسيب ورجال الأعمال الذين هبطوا على مواقع السلطة كي يُوجهوا ويقودوا بعقول التجار وأصحاب المصانع والمتاجر الساعين إلى الكسب والاحتكار وتعظيم الثروة، رافعين شعار قداسة السوق وسلطته القادرة في النهاية على إحداث التوازن وإزالة الخلل، ومستبعدين تماماً من حساباتهم عشرات الملايين الذي نجحوا فقط في إفقارهم، وبيع ممتلاكاتهم وقتل أحلامهم ودفعهم أخيراً إلى حافة الجوع، ناسين عبارة أبي ذر الغفاري الشهيرة «عجبت لرجل لا يجد في بيته قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه». وما حدث في مدينة المحلة الكبرى في 6-7 من إبريل الماضي كان في واقع الأمر إنذاراً كبيراً وتجربة صغيرة لأحداث أكبر وأوسع تطيح بكل شيء إذا بقيت الحال على ما هي عليه، وإذا ظلت الدولة تروج الأكاذيب عن اللصوص والمخربين الذين هبطوا من الفضاء ليحرقوا ويسرقوا وينشروا الدمار، ولكي لا تتهم نفسها وسياستها فإنها تسير على نهج الرئيس السادات وتقتبس من قاموسه، فتتهم اليساريين والمثقفين والإخوان المسلمين وغيرهم بقيادة الأحداث وتفجيرها.

Ad

لم يعد بوسع الدولة الاعتماد فقط على رجل الأمن لفرض الاستقرار وإرهاب الغاضبين وإجبار الناس على ابتلاع الرمل والحصى، فالجوع قائد لم يُهزَم في معركة واحدة حتى الآن، وكتب التاريخ تحدثنا عن الحشود التي قادها وأسقط بها الدول والإمبراطوريات، ويبدو أن الجالسين في الأعالي قد خُدعوا أولاً بالرهان على لا نهائية صبر المواطن المصري وقدرته على تحمل كل أشكال الأذى، وثانياً بذلك الازدهار الكاذب ومظاهره التي تتمثل في استيراد أفخم أنواع السيارات وأطعمة الكلاب، وفي مشاريع البناء والتشييد التي اقتصرت في الأعوام الأخيرة على بناء المنتجعات السياحية والشقق السكنية الفخمة والقصور الفاخرة وغيرها من المشاريع التي توحي بالثراء والازدهار وتحسن أحوال الناس، وثالثاً بتلك الشهادات التي تحصل عليها الحكومة من المؤسسات الدولية التي تشيد بأدائها الاقتصادي ربما لأنها تُنفذ وصايا هذه المؤسسات.

وقد نسي الجالسون في الأعالي أن مصر قد انقسمت في عصرهم السعيد إلى مصرين, مصر الأثرياء وحاملي الرايات والمشاعل للنظام، وهي الطبقة التي ازدهرت وراكمت الثروة وبنت لنفسها القصور والمنتجعات واستوردت السيارات الفاخرة وأطعمة الكلاب، ومصر العُظمى مصر الفلاحين والعمال والمثقفين والأطباء وأساتذة الجامعات والمهندسين والقضاة والصحافيين والكتّاب والعاطلين والمشردين وأطفال الشوارع والحالمين بالفرار من جحيم البطالة وقلة الحيلة وغيرهم، وهي الطبقة التي تعاني أزمة رغيف الخبز وأزمة الإسكان والبطالة والغلاء والعنوسة، وكل ما يمكن تخيله من أزمات.

ومن السهل في وضع كهذا أن يتحول الاعتصام أو الإضراب إلى انفجار وإلى حرب شوارع بين المواطنين ورجل الأمن، ليسود العنف والتدمير والنهب وإحراق الممتلكات لكى يكتشف الجالسون في الأعالي أنهم يجلسون وحدهم في الزورق، وأن هناك شعباً كبيراً منسياً ومستبعداً من حساباتهم، وأن هناك مصر الكبرى في القرى والمدن والحقول والشوارع والمصانع لا يعرفون عنها الكثير لأن أبواقهم والمحيطين بهم تفننوا في حجب صورتها ووجهها ومعاناة أهلها بسيول الأكاذيب وكثرة الأحاديث عن الازدهار والتقدم الذي يقصدون به غالباً ازدهارهم الشخصي وتحسن أحوالهم، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل سيستطيع النظام تغيير سياساته للخروج من حقول الألغام التي حاصر نفسه بها؟

* كاتب وشاعر مصري