مفارقة المنتصر
يبدي كاتب إسرائيلي شديد دهشته مما يعترك السياسات الإسرائيلية التي تنطوي على مفارقة صارخة وبالغة الغرابة، إذ إن إسرائيل كدولة تعيش واقع المنتصر بتفاصيله كلها، من دون أن يتهددها خطراً حقيقياً، بينما تنم سياساتها وتدابيرها على أرض الواقع، من جدران عازلة ومستوطنات ممتدة على أراضي الآخرين، عن ضعف المهزوم وعقليته.
نشرت يومية «الهيرالد تريبيون» الأميركية قبل أيام مقالاً للكاتب الإسرائيلي دانيال غفرون، «يعلن» فيه لبني جلدته ودولته أن الدولة العبرية «قد انتصرت»، ويسوق، شأنه في ذلك شأن من يسعى إلى الإقناع بأمر تعوزه البداهة ويتطلب برهاناً، ما يعتبره حججاً تدعم زعمه، من انطلاق الاستيطان في فلسطين منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر إلى مآل «حرب الاستقلال» في سنة 1948 دولة قائمة الذات، إلى الفوز الساحق في حرب سنة 1967، إلى اعتراف العالم، بما في ذلك الدول العربية، بوجود إسرائيل على 78 في المئة من «أرض إسرائيل» (يقصد فلسطين الانتدابية)، إلى كون الدولة العظمى الوحيدة، الولايات المتحدة، «كائناً من كان رئيسها»، سنداً متيناً للدولة العبرية، إلى غير ذلك الكثير من آيات ذلك النصر المؤزر.غير أن الكاتب لا يخوض في هذا الموضوع من باب المباهاة والتفاخر، بل من باب إبراز مفارقة يراها صارخة لدى بني قومه، تناقضاً بين ذلك الواقع، واقع الانتصار المذكور، وبين امتناعهم عن التسوية امتناع غير الواثق، المتوجس تهديداً، المنكفئ خلف جدران أقامها تفصله عن تجمعات الفلسطينيين وأخرى يزمعها تفصله عن مصر، في حين أن وضع الدولة العبرية، في ميزان القوة، وما تحظى به من ضمانات، قمين بأن يزيّن لها السلام والإقبال عليه، «لأن الانكفاء خلف الجدران يبرهن مرة أخرى على عقلية المهزوم لدينا، والحال أننا قد انتصرنا».فهل أن في الأمر فعلاً مفارقة، كتلك التي يصورها الكاتب الإسرائيلي أو يتصورها، أم أن امتناع إسرائيل عن التسوية هو نتاج شعور الانتصار الساحق ذاك، لا نقيضه؟ ثمرته الضرورية لا تنكراً له؟ لسنا هنا في معرض دحض كلام الكاتب أو الاشتباه به لمجرد كونه إسرائيلياً، ردَّ فعل آلياً، فالرجل على ما يبدو من دعاة السلام، طالما أنه يقول، في المقال إياه إن «الحل السياسي الذي يتسوّل منا العالم التوصل إليه هو الوسيلة الوحيدة لوقف العنف بيننا وبين الفلسطينيين» وطالما أنه مؤلف كتاب، صدر له أخيراً بعنوان «فسيفساء الأرض المقدسة: قصص تعاون وتعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين». ما هو محل سؤال هنا هو إعادته معوّقات التسوية (حيث تُحسب له نزاهة الإقرار بأنها إسرائيلية المصدر في المقام الأول) إلى عوامل نفسية، فأخرجها بذلك، من حيث لا يدري أو لا يدري، من حيث يريد أو لا يريد، من مجال السياسة وموازين الصراع، والتمس لها، وإن ضمناً، الأعذار وظروف التخفيف. نحن نعتقد أن ماضي الاضطهاد والمحرقة (الذي لا نستهين به) كف عن أن يكون فاعلاً في تفسير مسلك إسرائيل، إلا على سبيل الابتزاز، إذ اكتسبت الدولة العبرية أسباب الثأر من ماضي الاضطهاد ذاك، وأن من أجلى مظاهر ذلك الثأر أنها قد نقلت ذلك الاضطهاد، صِرفاً، إلى الفلسطينيين، ناهيك عن أنها قد حازت من مظاهر القوة، كتلك التي أوردها كاتب المقال، ما هو كفيل بطمأنتها، هذا فضلاً عن أنه ليس بإمكان الفلسطينيين والعرب أن يفعلوا، مهما سعوْا وحاولوا، أكثر ما فعلوا حتى الآن لطمأنة إسرائيل، طالما أن فعل الطمأنة ذاك شأن نفسي، ذاتي خالص، لا سبيل إلى إخضاعه إلى معايير موضوعية معلومة.لذلك، من المرجح أنه إن كانت لإسرائيل أزمة مع التسوية، فهي ليست من ذلك القبيل النفسي، بل هي قد تكون من طبيعة أخرى، تأسيسية تقع في صلب الكيان والدولة، هي تلك المتمثلة في أن شرعية ذلك الكيان وتلك الدولة قد قامت، في نظر الذات بالخصوص، على نكران وجود الفلسطينيين شعباً. مقولة «شعب بلا أرض لأرض بلا شعب» لم تكن مجرد شعار خطابي، بل كانت مسوّغ المشروع الصهيوني وأساس شرعيته. ما كان يمكن لمشروع استيطاني، فريد من نوعه، كذلك الصهيوني أن يقوم إلا على افتراض الفراغ، ثم على صناعته واستيلاده، إلا على اعتبار الوجود الفلسطيني لاغياً أو وجوداً دون السياسي أو ما قبل سياسي، جالية أو مادة خاماً بشرية. لذلك، تصر إسرائيل على ذلك الإنكار، وتتشبث به لأن القول بغير ذلك، أي الاعتراف بالواقعة الوطنية الفلسطينية، نسف لتلك الشرعية من أساسها، وإقرار بأن الكيان العبري نتاج قوة فرضت أمراً واقعاً، أي، في المحصلة الأخيرة، إقرار بوجهة النظر التقليدية، الفلسطينية والعربية، في ذلك الصدد، أي نفي للذات.والقوة والمناعة اللتان اكتسبتهما الدولة العبرية هما وسيلتها الأفعل في الإبقاء على تلك الشرعية، كما تتوسمها في نفسها، أي أن الدولة العبرية لا تمتنع عن التسوية بالرغم من قوتها، على ما يذهب كاتبنا الآنف الذكر والذي يفترض تنافراً بين الأمرين، بل هي تمتنع عن التسوية لأن قوتها تمكنها من ذلك، ولأنها، وإن كفّت عن أن تكون مهددة في وجودها المادي، إلا أنها تتوخى شرعية لا سبيل إلى إلإبقاء عليها إلا بالقوة، إذ هي شرعية مستحيلة إن جازت العبارة، تفترض الفراغ ويجب عليها أن تستمر، إلى ما لا نهاية، في اصطناعه بأقصى القسوة، لأن التطهير العرقي سمة تأسيسية وملازمة في المشروع الصهيوني وليس مجرد طور من أطواره.لذلك، إذا ما وجد بين الإسرائيليين دعاة سلام، شأن كاتب المقال المذكور، فالأجدر أن تنصرف جهودهم إلى اجتراح شرعية بديلة لكيانهم الذي أضحى، على أي حال، أمراً واقعاً لا يوجد ما يتهدد وجوده وقد قبل به العرب، شرعية تمد كيانهم بمسوغات غير تلك التي قام عليها حتى الآن، وتلك مهمة لا يمكن لأحد أن يضطلع بها بالنيابة عنهم...* كاتب تونسي